منذ عام كانت آخر الحافلات تخرج من حلب، تحمل معها آخر الذكريات، وأشلاء مدنية مدمرة حملها المهجرون بما تبقى لهم من الحقائب.
حلب التي صمدت خمس سنوات كاملة وسقطت بأربعة أشهر من الحصار، لم تكن لتغادر أهلها أو لتكفّ عن احتضانهم، لولا أنّها لم تعد تقدر على شيء، المدينة مقفرة بالكامل، لا طعام ولا شراب ولا حتى هواء نظيف يصلح للحياة.
مات فيها كل الذين رفضوا الخروج، فالحياة في حلب لم تعد ممكنة، أن تبقى فيها يعني أن تموت فقط، الشوارع خاوية تماماً، بعض الجثث تُركت مكدسةً بقرب المستشفيات أو داخل براداتها المتوقفة عن العمل، لم يعد هناك وقت لدفن هذه الجثث، أذكر أني تعثرت بأحدها وأنا في طريقي للخروج، اقتربت من الجثة للاعتذار، فعرفت أنها لا تستطيع الكلام، تركتها ومضيت، ليست لأحدٍ أعرفه لاهتم لها، غريبة .. كشوارع المدينة التي نتركها غير مكترثين، لا بدّ أنها ستجد من يدفنها، كما الأطلال التي تركناها ستجد من يسكنها ولو كانت بعض الكلاب الشاردة، أمّا كرامة الإنسان فعليك أن تطمئن لها، لم نخرج من المدينة إلا بعد أن سٌفحت كاملة، كل ما تبقى هو خيالات بائسة، ليسوا كالبشر ولم يعاملوا منذ خمس سنوات على أنهم كذلك، همُّهم كان ذلك الصمود في سبيل ما يؤمنون به، لم يلتفتوا كثيراً إلى الشعارات والألقاب والصفات والمعاني. لم يكن لديهم أيّ وقت لذلك، كان الوقت مقسماً بدقة بين الجوع والموت.
مرّ عام، وكحال كل المهجرين في الدنيا، لا تزال حلب تلح ع الذاكرة كالوصايا، لا زلنا نسمع نداءاتها في نومنا، صورُ الشهداء لا تكاد تفارقنا، البلاد كلّها تضيق ولا تتسع لحلمنا الذي تمّ استلابه، كل ما نشعر به يحتاج نصراً كاملاً تستعاد فيه الدماء والحقوق والأمانات المخبأة في مستقبل نُصرُّ على أنه سيأتي.
لا وقت لدينا لمزيد من البكاء والرثاء، فالمدن المرثية لا تعود، لم تنطفئ شعلة العمل، ولم يتوقف النضال، ومازال الوطن وحريته وكرامة أبنائه هي أغلى ما يمكن أن يُبذل من أجله العمر على طوله أو قصره، لا فرق ..
حلب ليست مجرد شوارع وذكريات، إنها الحقائق الخالدة التي تنتظر فيض هذا الوطن لكي تستقيم على إرادته،
المدير العام | أحمد وديع العبسي