بقلم ماهر أبو مصعب
ما دمنا أحياء فثمة ما يستحق الحياة، وثمة أشياء كثيرة علينا أن نقوم بها، ووعود علينا أن نراها تنجز، وأحلام تحقق، وصمود يسطَّر، وأطفال تنجب، وأوطان بالمجد تقلد، وأنفس بالخلود تكلل، وكثير من الصبر يبذل، وأمل بأنَّ الحياة على أرض مخضبة بالدماء ستزهر.
على وجه هذه المدينة لا مكان لليأس، ﻷنَّه معنى من معاني الموت الذي لا مفرَّ منه، فلمَ نذهب إليه ما دام ملاقينا؟ ولن نخشاه ما دام معنى آخر من معاني الحياة، وخطوة أخرى على طريق النصر، لا تحسبوا أنَّ تلك الدماء الزكية التي تسيل كل يوم دماء رخيصة، أو تلك الدموع النقية التي تنهمر من أجلها دموع هيِّنة، إنَّها عند الله عزيزة وعظيمة وحاشا لله أن يضيعها.
إننا للتو خرجنا مهللين بفكِّ الحصار الذي اعتقدنا أنَّه لا يكسر، فمنّ الله علينا وزاد يقيننا به، ثم قدر علينا أن نخوض معركة يقينية أكبر غداً، الناس فيها لا يتذكرون حصارهم إلا عندما يغيب عن أسماعهم صوت الطائرات، وعن أعينهم مظهر الدمار والدماء، ولكن ظنهم بالله الذي لم ينساهم من قبل أنه لن ينساهم اليوم وهم أكثر حاجة إليه وتعلقا به، وربما ما زالت أمامنا كثير من الصعاب التي سنواجهها حتى تجردنا لله من حظوظ أنفسنا، ومن تدابيرنا وقوتنا وتنجينا من خلافاتنا، وتجمع كلمتنا، وتنطق ألسنتنا بالدعاء، وتملأ قلوبنا باليقين ثم تمنحنا خريطة السير في طريق الخلاص.
إنَّ الانتصارات التي كنا نقرأ عنها، ونحفظ تواريخها وأحداثها، قد مرَّت يوماً من طريقنا هذا، وها نحن نمرُّ على طريقها اليوم، وستمر انتصارات كثيرة بعدنا بمشيئة الله على هذا الطريق ﻷنَّه طريق النصر، الطريق المعبد بقوافل الشهداء المروي بدمائهم، والقائم على التضحية والصبر واﻷمل، المختوم بكوة النور ونشوة الظفر ونيل المنى.
إنَّ النصر لا يخط بضربة اﻷقوياء القاضية فحسب، إنَّما يخط بصمود الضعفاء في وجهها، وقدرتهم على التماسك أمام ضغطها، واعتقادهم في كل صمود أنَّها الضربة اﻷخيرة ﻷنَّها حتما ستكون اﻷخيرة في يوم ما.
إنَّ هذه الشدائد التي تمرُّ اليوم من حصار وجوع وقصف وموت، والتي لم تمر بهذه القسوة من قبل، ليست إلا مزيداً من صقل العزائم، وتقوية الصبر، ودعم الصمود، وتهيئة الجيل الذي سيقلد بقلادة النصر يوما ما ﻷنه كما قيل قديماً:
ومن أخذ البلاد بغير حرب هان عليه تسليم البلاد
وما الحرب إلا ما ترون وتسمعون، إنَّ هذه الدماء التي سفكت ليست دماء للمراثي، وتلك اﻷجساد التي دفنت ليست وقوداً للموت، إنَّها مزيد من التثبيت لمن بقي في ساحة الصمود، إنَّها مطالب بأن لا تذهب هدراً، ومشاعل على درب الوفاء والمقاومة حتى آخر رمق.
علينا أن ندرك اليوم أنَّ ما يجري ليس عبثا، فثمة أيضاً كثير من الدروس سنتعلمها، وكثير من الحب سنبثه ﻷولئك الذين لم نفارقهم بعد، ولم نعرفهم من قبل، والذين لا يجمعنا بهم إلا إسلام ووطن، وكثير من التضحية واﻹيثار ﻷجلهم، وكثير من الرحمة والإشفاق عليهم، وكثير من المودة لهم، وكثير من تقاسم المصائب معهم، وتقاسم الحزن والجوع واﻷموال والثمرات، وكثير من الدعاء الخالص واﻷمل الكبير بالله الذي تبذل في سبيله اﻷرواح، وترفع له اﻷيدي وتطلب منه اﻷماني.
ليت بمقدورنا أن نتعلم من هذه اﻷيام العصيبة القليلة كل ما نحتاجه من دروس دفعة واحدة، فننجي أنفسنا من جحيم أيام قادمة، ونضع بيدنا مفاتيح النصر.
فالنصر ليس وليد المعركة اﻷخيرة فحسب، إنَّما هو نتاج لكل تفاصيل الحكاية لما أعددناه له، ولما صبرنا وصمدنا من أجله، ولما امتلكنا من أسبابه لنستحقه، ولما بذلنا له اﻷرواح واﻷموال ولنا في قول العزيز: ” ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في اﻷرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ” سلوان وبشرى، إنَّه ﻻ ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.