سيرين المصطفى |
في آخر إحصائية منشورة من قِبل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تم توثيق مقتل ما لا يقل عن 487 مدنياً، بينهم 118 طفلاً، و92 سيدة، إلى جانب إصابة ما لا يقل عن 1487 مدنياً بجراح، منذ بدء حملة التصعيد العسكرية لقوات الحلف السوري الروسي على منطقة خفض التصعيد الرابعة في 26 نيسان/أبريل وحتى 21 حزيران/يونيو من 2019.
118 طفلاً يعني أن هناك العشرات من الأمهات عشنَ تجربة الفقدان في الفترة الأخيرة، وما يزلنَ الآن يقتتنَ على الذكريات التي ما إن تطرق الخيال توقد الدموع بعد أن ترسم ابتسامة الحسرة على وجه صاحبتها. ومن أولئك الثكالى (أم محمد) من قرية (إحسم) المرأة الأربعينية التي ودعت ثلاثة من أطفالها في 28 أيار/مايو خلال العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم، بعد أن غدا العيد على الأبواب.
“راحوا قبل أن يرتدوا ثياب العيد الجديدة، وجع لا يمكن وصفه بالكلمات، حرقة لا يعلمها إلا الله ثم من عاشها”. هكذا بدأت أم محمد بصوت مخنوق حديثها عن أولادها لصحيفة حبر.
ثم انتقلت لتحكي لنا عن أسباب وجودهم في إحسم خلال تلك الفترة رغم التصعيد العسكري: “بعد أن اشتد القصف على إحسم، قررنا النزوح، خاصة أن الطائرة صارت تلقي بالبراميل على أطراف القرية ومنتصفها، أي لم يعد هناك أمان، كما أن الأولاد نفد صبرهم على تحمل الخوف اليومي، فانتقلنا إلى حارم التي عانينا فيها كثيرًا حتى وجدنا منزلاً، إلا أن الإقامة بها صعبة للغاية.
الليل بارد لأن المكان مرتفع، في الوقت الذي لم نحضر معنا أغطية كافية، كما أن المعيشة صعبة، فكل شيء غالٍ، ولا إعانات أو مصدر رزق، مما دعانا للعودة إلى القرية بعد أن نفدت النقود، وأيضًا لوجود كرز علينا قطافه بغية تأمين رزقنا”.
تكمل حديثها واصفة مشهد الموت: “كنت جالسة في المنزل حوالي الساعة الواحدة ظهرًا بعد موجة من التعب سيطرت عليَّ نتيجة الصيام، فطلبت من أولادي أن يذهبوا ليجلبوا بعض الخضار، ثم انطلقوا.”
تتوقف للحظات ثم تكمل بعد أن تبدلت ملامح وجهها: “لم أسمع صوت طائرة أو ضربة، وإنما شعرت وكأن زلزالاً ضرب المنطقة بأكملها، فارتعبت على صدى صراخ بناتي بأعلى صوتهنَّ: (يا أمي أخواتي راحوا) اتجهت للخارج بلا وعي دون أن ألبس الحذاء، فلامست قدماي الشظايا، ثم تصادفت أنا وجاري، قلت له: (دخيلك ولادي طلعوا من شوي، شفلي ياهم) بحثنا عنهم لكن لم نجدهم، هنا فقدت الأمل من عودتهم، بعد ذلك جاءنا خبر استشهاد اثنين، وإصابة الثالث الذي نقلوه إلى مشفى المحافظة”.
أغمضت عينيها ثم تابعت السرد: “كانت الطائرة متابعة تحليقها في الأجواء، فسارعت لإرسال أولادي الذين كانوا في المنزل خارج القرية كي أؤمن عليهم، ثم عدت بعد أن توقف القصف كي ندفن الطفلين، لينشغل نظري بمراقبة تلك العيون الطفولية المغمضة والتراب يغطيها رويدًا رويدًا، بيد أنه كان في قلبي رجاء أن ينجو أحمد، ابني الثالث المصاب. لكن عندما عدنا إلى البيت بعد الفراغ من الدفن، أثناء تجهيزي لبعض أغراض أحمد لأخذها معي إلى مشفى المحافظة، أبلغوني خبر استشهاده أيضًا، ثم أحضرناه لندفنه بجانب إخوته”. تختتم أم محمد حديثها بدعائها: “الله ينتقم من الظالم”.