مرَّت أعوامٌ عديدة لم أرَ فيها ذلك الحي من أحياء حلب الذي كان في يومٍ من الأيام جزءاً أساسياً من حياتي، لم أعهد من قبل أن أفارقه كلَّ هذه المدة الطويلة.
اليوم مررتُ به بضع ثوانٍ خفق لها قلبي، كأنَّ حباً قديماً قد استيقظ بداخلي، فأنا لم أنسَ يوماً شكله وصخبه وأجواءه المحفورة بذاكرتي، كان يعجُّ بالحياة، بالأمل، بالأفراح والأحلام، أذكرُ جيداً كيف كان يكتظُّ بآلاف الطلاب، كان يرقصُ بأرواحهم، وينشدُ بضحكاتهم، كان مشهدهم حين يتزاحمون حول البائع الجوال يشعلُ الفرحة في داخلي، كان الحي يُشرقُ بهم ، في ذلك الحي كُنَّا نسير كأنَّ حياتنا تبدأ من هذا الطريق، كان محفوفاً بالأمل، كنَّا نسير بثقلٍ وتمايلٍ سعداءُ بتلك اللحظات، و أحاديث لا تنتهي وضحكات لا تتوقف و أفراحٌ لم نكن نُدرك ما سرها.
هذا كان يحلمُ بأن يكون طبيباً في المستقبل، و ذاكَ يحلمُ بأن يصبح مخترعاً كبيراً، وتلك كانت تتمنى بأن تصبح كاتبة مشهورة، نمشي ينادي أحدنا الآخر يا طبيب، ويا مخترع، ويا كاتبة المستقبل، وضحكاتٌ تملأُ الحي.
لم يكن أحدٌ يحسب أنَّ ذلك اليوم الذي سِرنا فيه كان آخر يومٍ للقاء، لم يدرِ أحدٌ أنَّه آخر يومٍ للضحك والفرح، فلم يودِّع أحدُنا ذلك الحي المسكين.
ربَّما كان هو يودِّعنا بألم وصمتٍ، ربَّما أراد منَّا أن نحافظَ على أفراحنا، ربَّما أرادنا أن نظل سعداء مهما ابتعدنا عنه، لكنَّنا لم ندرك ولم نسمع ذلك.
واليوم مررتُ على أعتابه لحظاتٍ وكنتُ أظنُّ أنَّني سأراه يعجُّ بالحياةِ كعادته، اجتاحتني كثيرٌ من المشاعر، وازدحمت في خاطري الذكريات والصور القديمة، لكن ثمَّة ما صدمني وصفعني ألماً وحسرةً، اصطدم برأسي كرصاصة قاتلة رماها الزمان على أفراحنا.
كان جسداً مثخناً بالجراح، لم أرَ فيه إلا الخراب والدمار، ولم أستنشق سوى رائحة الدماء التي تنبعث من بين زوايا، وددتُ لو أُقبِّل كلَّ حجرٍ من جدرانه الملطخة بسواد الحقد والغدر الذي فجروه، سرتُ أبعثر من حولي نظراتٍ متوجعة إلى الأشلاء التي فرشَتْ أرضه، أستمع إلى صدى الألم والمأساة التي غاصت بأعماقه، لقد غادره كلُّ الأطفال الذين كانوا يضحكون، ربَّما مازالوا على قيد الحياة لكن ضحكاتهم لم تعد تُسمع، لقد رحلوا جميعاً، تناثروا في بقاع الأرض، ورحلت أحلامهم معهم، وربَّما بعضها بقي هناك في إحدى زوايا ذلك الحي، تم تمزيقها و تحطيمها بسقوطِ أحدِ الجدران.
إنَّ من قصفَ لم يقصف المباني والأحجار، ولم يكن دماراً مقتصراً على المساكن والمنازل، لقد دمروا وطناً بأكمله، لقد قصفوا آمالًا وأحلاماً ومستقبلاً، قصفوا أرواحاً وأفراحاً، وقصفوا أحلامَ ذلك الحي.