الشيخ معاذ الخطيب |
هناك فكرة أو طريقة تفكير يمكن للمرء ملاحظتها بشكل دائم عند غالبية الناس، تتمثل ببيت الشعر المعروف:
أتاني هواها قبلَ أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
هذا ينطبق في المعرفة أيضًا:
أحيانًا نبحث عن حل لمشكلة، وقد يكون ترياقها حسب ما يظهر لنا في أفكار أخرى، فنذهب إليها ولكن الأفكار الأخرى تعاني أيضًا من اختلالات نفورنا من أفكارنا الأولى، هذه الاختلالات التي لا تسمح لنا برؤية فوائد الأفكار الجديدة.
لذا لن نتوازن إلا بالتجذر في القيم الأصلية التي نمتلكها ثم الموضوعية والإنصاف في المعرفة والتعاطي مع أفكار الآخرين؛ كي لا نبقى ندور حول الرحى بين مطرقة الجمود الذي قد يعترينا وسندان فتنة ما عند غيرنا.
قد لا نكون جميعًا ممن مرَّ بمعاناة فكرية شديدة من أقصى اليمين إلى اليسار، ولكن يمكننا الاستفادة من تجارب من سبقنا
ومنها مثلاً: تجربة الدكتور (عبد الوهاب المسيري) ولو وجد أحد كتابه: (رحلتي الفكرية سيرة غير ذاتية غير موضوعية) فأنصحه بقراءتها؛ لأنها توضح البداية ثم الغرق ثم الرجوع..
وكذلك تجربة المرحوم (خالد محمد خالد) وكيف كان شيخًا أزهريًا فتن ببعض ما في الثقافة الغربية وأخذ عن منظريها في بلادنا، فطلّق كل انتمائه لباسًا ومظهرًا والتزامًا، وحلق يومها لحيته وكتب: (من هنا نبدأ) ثم عكف على مظاهر الثقافة الغربية يأخذ نفسه بها، في المراقص والملاهي وبين يدي الفاتنات وهو يتباهى بهذه الإنجازات، ورد عليه يومها الإمام الغزالي المعاصر بكتابه: (من هنا نعلم)، وبعد أكثر من عشرين عامًا عاش الرجل توازنه من جديد، وكتب بعض روائعه مثل كتاب: (رجال حول الرسول) وكتاب: (خلفاء الرسول) ولكن أهمها كتابه الرائع: (الدولة في الإسلام) الذي قال فيه ختامًا كشعار للكتاب: “الإسلام دين ودولة، حق وقوة، ثقافة وحضارة، عبادة وسياسة” وهو بهذا الكتاب كان يرد على كتاب مراهقته الفكرية (من هنا نبدأ) وقد ذكر ذلك صراحة في مقدمته التي شرح فيها أسباب نهجه السابق، وما هي الأفكار التي أثرت به، وحملته على ذلك، وكان من أهمها تلك الفكرة التي تجعل الأفكار الأولى التي يتلقاها الإنسان هي الأكثر تأثيرًا به، فإذا لم يمتلك ذهنًا متقدًا لمراجعتها وتقويمها، تسلطت عليه فصبغته بصبغتها.
وكان يقول عن كتابه: (من هنا نبدأ): إنه لمّا رأى حفاوة أعداء الإسلام بالكتاب أدرك أنه أخطأ فيه وظل يفكر فيما دعا إليه من فصل الدين عن الدولة.
هناك ضرورة لفصل الدولة عن الدين في بلاد العرب والمسلمين فإن الدول ركبت ظهر الدين والمؤسسات الدينية وأجبرتها على العمل لصالحها، ولا استقرار ولا توازن حتى تكون الدولة في خدمة كل مكوناتها وعلى مسافة واحدة من الجميع.
لذا أذكِّر نفسي والقراء الأعزاء بألَّا نعيد اكتشاف المكتشف ولا ننتشي به، وأن نتعلم ونعرف كثيرًا قبل أن نقرر في الحقائق الكبيرة، وعلينا أن نسأل أنفسنا دائمًا عن سلطة الأفكار الأولى التي بدأنا بها طريق المعرفة على تفكيرنا ومنهجيتنا، هل حجبتنا عمّا سواها، أم أنها تساعدنا لفهم أفضل؟ …