جاد الغيث |
لو كان للحروف ذاكرة تختزن القصص والحكايا لكان لكلماتنا حين نكتبها حياة جديدة نستعيد عبرها ضحكات وآهات. مرت على تلك الحادثة أربع سنوات وكانت في مثل هذه الأيام من العشر الأوائل لشهر ذي الحجة، حينها غصت الشاحنة الكبيرة بما يزيد عن تسعين خروفًا، وانطلقنا بصحبة العم (أبو منتصر) أنا وصديقي في سيارة خاصة، وخلفنا وأحيانًا أمامنا تمضي الشاحنة المحملة ببضاعة مزجاة.
كانت الخراف المكتظة باللحم تعيش ساعاتها الأخيرة، وربما تشعر أنها كانت مساقة للذبح، على الأغلب لم تكن مسرورة بذلك، وربما كانت في غاية السعادة؛ لأنها ستقدم لحمها الشهي للثوار الذين هم بدورهم يقدمون حياتهم رخيصة في سبيل رفع الظلم عن أهل سورية.
الخراف لا تمتلك تلك النظرة الفلسفية والمعنوية لذبحها في عيد الأضحى، لكن غالبًا ما يحلو للكتاب أنسنة الأشياء والمخلوقات بهدف الوصول إلى عمق المشاعر فتغدو الفكرة أكثر إعجابًا لدى القراء.
كانت الخراف تتناقص تدريجيًّا كلما توقفت الشاحنة في قرية أو بلدة من بلدات وقرى ريف حلب الغربي التي تتميز بجمال طبيعتها، وفي كل محطة يستقبلنا قائد الكتيبة أو معاونه لاستلام عدد من الخراف الذي يختلف وفقًا لعدد عناصر كل كتيبة.
بعض الخراف كان ينزل من الشاحنة وهو مطمئن خافض الرأس، والبعض الآخر كان عنيفًا لا يستجيب للجر من قرنيه ولديه جموح بالركض في أي اتجاه، وهذا ما كان يجعل التقاط الصور مهمة صعبة أحيانًا، كأن بعض الخراف الثائرة لديها أقارب في مناطق نظام الأسد، فهي تخشى أن يلحق بهم الأذى ولا تريد أن يتعرف إليها أحد عبر مقطع فيديو قصير أو صورة فوتوغرافية.
المهمة ينبغي أن تنتهي مع غروب الشمس لنعود ونسلم الورقة التي تحتوي تواقيع الاستلام لولا ذلك الخروف الضائع الذي شغلنا لوقت طويل ونحن نُعيد حساباتنا ونتأكد من العدد المسلَّم لكل كتيبة، المشكلة أننا اكتشفنا الخروف المفقود في آخر محطة لنا وكان من المقرر أن تستلم الكتيبة تسعة خراف، وإذ بالمتبقي في الشاحنة ثمانية فقط!! وهنا بدأ السؤال الكبير المقلق أين اختفى الخروف التاسع؟!
لا شك أن هناك خطأ وقع أثناء التسليم وإحدى الكتائب حصلت على خروف زائد ليس من حصتها، لكن من هي تلك الكتيبة؟! لمعرفة ذلك ينبغي العودة إلى كل القرى التي مررنا بها طوال النهار للتأكد من العدد المسلَّم لكل كتيبة، وهذا يحتاج وقتًا طويلاً، ولا يمكن القيام بهذه المهمة الشاقة ولا الاستعانة بالقبضة (الجهاز اللاسلكي للتواصل)؛ لأن ذلك سيجعل الجميع يعرف بالأمر والعم أبو منتصر أراد أن نعالج الموضوع بحكمة وترو وسرية.
انتابنا شك بسائق الشاحنة، فقد ضل طريقه عنا لبعض الوقت، ولربما هرَّب خروفًا دون أن نراه وتركه في مكان آمن، لكننا استبعدنا هذا الظن السيء؛ لأن الرجل مشهود له بالأمانة.
بعد طول نقاش قررنا العودة إلى المركز الرئيس الذي حصلنا منه على الخراف،
وفي الطريق كان السؤال الملح لصديقي أين اختفى الخروف؟! وكان العم أبو منتصر يجيبه ضاحكًا: “إنه في جيبي”
حين وصلنا بعد غروب الشمس بقليل استقبلنا الرجل الشهم الذي لم أعد أذكر اسمه بابتسامة عريضة وأخبرنا مباشرة بأننا نسينا خروفنا الضائع عنده، حينها صدرت عن صديقي ضحكة مقتضبة كعادته وأضاف معقبًا: “وجدنا خروف عيد الأضحى الضائع ولمَّا نجد خروف نصرنا في هذا العيد، الذي سننحره في عرس حريتنا الضائعة منذ عقود، فهل نجده في الأضحى القادم؟!” صديقي العزيز ها نحن في الأضحى القادم ولمَّا نجده بعد، وماتزال دماء طالبي الحرية تُراق في سبيلها.