كثيرٌ منا يقف للعمل ساعاتٍ طويلة دون تذمرٍ أو ملل، فرغم الشعور بالتعب يقاوم الجسد بالصبر والتحمل، لكن حينما نقف للصلاة نقرأ قصار السور ونردد التسبيحات بسرعة مع أنّ الجسد قادر على الوقوف لفترة أطول، لكن القلب لا يريد …
كم سهرنا على أتفه الأمور؟! وضاع منا الثلث الأخير من الليل، حين يتجلى الله تعالى على عباده بالرحمة والعطاء والمغفرة. “هل من صاحب حاجة فأقضيها له؟ هل من مستغفر فاغفر له؟” ومع أنه يمكننا قيام الليل، لكن قلوبنا لا تستطيع، فقد أرهقها السهر.
الخلل ليس بالجسد، إنما الخلل في القلب!
حينما أحرص أن يستيقظ أبنائي للمدرسة مبكراً طوال ستة عشر عاماً من مسيرتهم الدراسية، وأفشل بإيقاظهم لصلاة الفجر، بل وقد أفشل في إيقاظ نفسي، فإن مشكلتي ليست النهوض باكرا، إنما قلبي لا يستطيع أن يصحو لله، لكنه يصحو لأمور الدنيا.
عندما أحفظ دروسي جيداً وأذهب إلى الامتحان لأنجح به أنسى أني في طريقي للامتحان قد أموت لِأُمتحن بمواد أخرى قصرت بها طوال حياتي وقد ولدت لأجلها ألا وهي طاعة الله.
الخلل ليس بجسدي، لكنه بقلبي.
عندما أجد وقتاً لأستحم وآكلَ وأعمل وأدرس وأتحدث وأضحك، فإن العلة ليست أني لا أجد وقتاً للطاعات، لكن قلبي لا يمتلك وقتاً ليفكر بالطاعات، فالخلل ليس بجسدي، لكنه بقلبي.
المشكلة بالنهاية ليست أننا لا نستطيع، فنحن مكلفون بما نستطيع لكن قلوبنا لا تريد فالتعلق بالحياة قد أفسدها.
أرقى أنواع التكليف ذلك الذي يأتي عن حبٍّ، ومن يحب تهون عليه المهام الصعبة، بل ويسعد بها في سبيل رضى المحبوب، فهل عشنا تجربة الحبِّ لله في الصلاة مثلاً؟!
فالوقوف لأداء فريضة الصلاة يتطلب قراءة سورة الفاتحة كفرض لصحة قبولها، هذا الفرض (قراءة الفاتحة) يغدو حباً مشتركاً بين الله عز وجل والعبد حين يتذكر المصلي في نفسه نصَّ الحديث القدسي العظيم: “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، يقول الله تعالى: حمدني ومجدني عبدي، فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول تعالى: هذه بيني وبين عبدي، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، يقول الله تعالى: لعبدي ما سأل”
هذا الحب والعطاء له جذر ينبغي أن يسقى باستمرار وهو (التفكر في نعم الله تعالى وخلقه) وقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “جبلت القلوب على حبِّ من أحسن إليها”
وهل هناك أعظم إحساناً من الله عز وجل؟ وقد أغدق علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وسخر لنا ما في الكون لننعم بحياة هانئة، وذلل لنا مخلوقاته لتكون خادمة لنا في طاعته.
عندما يتفكر الإنسان بنعم الله تعالى وأفضاله يفيض قلبه حباً وتعظيماً لذلك المنعم الكريم الودود الرحيم، والذي بيده مقاليد السموات والأرض، والذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
إله واحد لا تأخذه سنة ولا نوم، حينها تغدو العبادة متعة يتنافس عليها العابدون ويصدق فيها ما قاله أحد الصالحين: “لو يعلم الملوك ما نحن عليه من النعيم لقاتلونا عليه بالسيوف”.
فالذكر والصلاة وفعل الخيرات طاعات تدخل البهجة إلى الروح والطمأنينة إلى النفس بشرط حضور القلب وسلامته من الغل والحقد والحسد في مثل هذا التذوق لمعنى الصلاة ينهض الجسد منتشياً بالوقوف بين يدي الله تعالى مردداً آياته بقلب خاشعٍ مليء بالحب والشكر على النعم، ودون ذلك الإحساس والتفكر بنعم الله تعالى وحبه لنا ستبقى الأجساد نشيطة في عالم الكسب المادي ومتعبة في عالم الروح والمعنى، فإذا أدام العبد تفكره في نعم الله، استقام حب الله في قلبه.
وبذلك لن يكون هناك خلل في الطاعات؛ لأن القلب والجسد منسجمان في التقرب إلى الله ويحث أحدهما الآخر للوصول إلى رضاه.