نور القدور |
ألقت بجسدها على الفراش، بحثت عن أمنية واقعية لا تثير باستحالتها سخرية عالم الأحلام، نبّشت في عمق ذاكرتها عن أثر سعادة تطبطب بها على قلبها وتتحايل من خلالها على الأرق، تقلبت يمنة ويسرةً دون أن تستطيع النوم إلى أن طلع الصباح الذي لطالما خشيت شروقه.
لم تترك (منال) فكرة أو حلاً إلا وطرقت بابه، لم تترك دعاءً ووردًا إلا ابتهلت به إلى الله، ولكن الواقعَ لا مفرَّ منه، يصادف اليوم تاريخ السادس والعشرين من شهر حزيران، هذا التاريخ الذي بات يسبب لها أزمة نفسية لا تلبث أن تنتهي إلا وتعود من جديد، … تساءلت بنفسها: “لمَ مرت عليّ ساعات الليل كأنها سنة، وتاريخ هذا اليوم بأسابيعه الأربعة يمرُّ بلمح البصر؟!”
نظرت إلى أطفالها الأربعة الغارقين في نوم عميق، عزّ عليها إيقاظهم، فربما سيكون هذا اليوم الأخير الذي يبيتون فيه تحت سقف بيت متماسك الجدران، لا أدري بأي شارع سيرمي بنا صاحب البيت اليوم، بعد أن أخبره أنّي عجزت عن تأمين إيجار المنزل للشهر الثالث على التوالي، ففي كل شهر كنت أخبره أنني أنتظر مبلغًا من المال أسدد به دينه، ولكن السؤال، ما مصدر تلك الحوالة المالية المرتقبة يا ترى؟ من هو الذي سيرسلها؟ فزوجي قضى تحت ركام دكانه منذ سنوات بعد قصف النظام لسوق شعبي في معرة النعمان، وترك على حضني طفلاً رضع الدموع الممزوجة بالحليب، أم من أهلي زوجي الذين حرموني وأطفالي من كل حقوقنا بمجرد رفضي الزواج بأخيه؟ أم من أخي الذي ينتظر حوالة مالية كتلك التي أنتظر ليعالج بها أمي المريضة بالسرطان؟ من أين لي بخمسين دولار شهريًا وأنا عاطلة عن العمل؟ فلولا كفالة الأيتام الشهرية لما استطعت شراء الخبز.
من فرط عجزي بدأت أفكار جنونية تجتاح خيالي، كأن أضم أطفالي وأحرق نفسي والبيت وما فيه، فلماذا عليّ أن أدفع ضريبة للعيش ضمن هذا الجحيم المأجور؟ بينما أستطيع العيش في جحيم مجاني؟! ثم فكرت ما الجناية التي أستطيع ارتكابها لأتمكن دخول السجن وأطفالي؟ أظن أن الخدمات المقدمة في السجن أفضل حالاً من هذا البيت العفن الذي رضيت به ولم يرضَ بي حتى.
رجمتُ الشيطان ببراءة أطفالي الأربعة واستعذت بالله على ما راودني من أفكار، ولكنه العجز يا الله، لا أريد أن يتلطخ مستقبل أطفالي بوحل المخيمات، لا أودُّ أن تتحجم أحلامهم بطول سقف خيمة القماش ذاك، أعلم بأن أطفالي ليسوا أفضل من أطفال المخيمات، وبأن الخيمة باتت حلمًا للكثيرين، ولكني أقاوم .. فخذ بيدي.
كنت أراقب صوت خطوات المارة بالقرب من باب المنزل، كمن يراقب خطوات السجان الذي سينفذ حكم إعدامه، ثم هممت بتوضيب ما نملك من أغراض في حقائب تأهبًا للرحيل دون أن أثير ضجة في الحارة، فطوال تلك الفترة لم أدع أحدًا يعلم بعسر وضعي المادي، وقاطع (غيث) طفلي الأكبر بحماس ٍزحمة أفكاري بالسؤال “أمي هل سننتقل إلى بيت أكبر؟” لكن الجواب كان على شكل ثلاث طرقات على باب المنزل، تلاها صوت سعال صاحب البيت الجاف كوجهه، فطلبت من (غيث) فتح الباب ليهون عليَّ عبء الإجابة عن سؤاله الذي ستبدأ قصته للتو …