عبد الرحمن الرحمونلا تزال الهجرة النبوية الشريفة تفيض علينا من عطاءاتها ومن عظاتها ودروسها، وما زلنا نتفيأ ظلالها، لم تكن الهجرة النبوية المباركة ردة فعل ولا حفاظا على الأجسام أن تصاب ولا على الأعراض من أن تنال ولا على الأشخاص أن يلحق بهم الأذى ،ولم تكن فرارا ولا هروبا من الشدة ولا فرارا من التعب والسغب والحرمان والجوع؛ إنها ترك للوطن طلبا لما عند الله، وإنها تحمل للاغتراب ابتغاء مرضاة الله سبحانه، لقد كانوا يتركون الأهل والمال والوطن والعشيرة ويلحقون بأرض ليست أرضهم وقوم ليست بينهم وشيجة ولا صلة، اللهم إلا صلة الدين ووشيجة الإيمان والإسلام، وهكذا كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، لا من أجل أن يعيش في سلام و أمان بعيدا عن الأذية، منوطا بسياج الراحة، ولكنه هاجر صلوات الله وسلامه عليه، ليقود المجتمع الذي كان أنموذجا للمجتمع الذي تنشده الإنسانية وتبحث عنه في رحلتها الطويلة عبر الدهور والعصور، إن الهجرة فيها برهان للثبات على الحق ودليل قاطع على أن دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي دعوة نبوة ورسالة لا دعوة ملك وزعامة وسلطان، ولو أنه أراد ذلك لأعفى نفسه ومن حوله من هذا النصب، خاصة وقد عرضت عليه الدنيا بحذافيرها، فلقد عرض عليه المال والجاه والسلطان والزعامة، لكنه أبى ورفض كل هذه العروض البراقة وتلك المساومات الزائفة، وأعلنها عالية سامية وأعطى النزاهة والعفة درسا لا تنساه أبدا (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة دليلا قاطعا على أن وطن المسلم هي عقيدته؛ فحيثما عزت العقيدة وازدهرت فثمَّ الأهل والوطن وثمَّ الدار والعشيرة، وحيثما اضمحلت العقيدة ولم يبق لها حول ولا طول فلا قيمة لأهل ولا وطن ولا سكن ولا عشيرة ولا جوار، بل لا قيمة للحياة كلها إذا ذهبت العقيدة وذابت.إنها الوشيجة المتينة التي تلتقي عندها الشعوب على اختلاف أجناسها وأعراقها وأشكالها ولغاتها، فإذا اختلفت العقيدة فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتعارفون؛ ولهذا تبرأ أصحاب النبي رضوان الله عليهم من القرابة الكافرة، فلم يعد الأب أبا ولا الولد ولدا، ولم تعد العشيرة عشيرة ولا القرابة قرابة، لأن العقيدة مختلفة، إنها الوشيجة المتينة التي تؤلف بين العناصر المختلفة والأجناس المتباعدة، فلا فرق في هذه الوشيجة بين أعراق وألوان و(لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).لقد كانت هذه الوشيجة تضم بين رحابها كل الأجناس وكل الإقليميات والأعراق المختلفة ولقد كونت في هذا الميزان الإسلامي طاقة رائعة متناسقة؛ فيها الأسود والأبيض والأحمر والأصفر وفيها العربي والعجمي، وإن الذين يغالون في الدفاع عن القومية ويشادون فيها، فإنهم يدافعون عن الطين والتراب ويربطون أنفسهم بالمادة.ولست أرضى سوى الإسلام لي وطنا الشام أهلي وأهل الهند جيرانيوالصين إن كان حكم الله مزدهرًا في أرضها فجميع أهل الصين إخوانيوما زال التاريخ يتابع خطوات هذا المهاجر العظيم صلوات الله وسلامه عليه في كل خطوة يخطوها وفي كل عمل يرسمه، ليسير عليه. لقد وضع عصا الترحال عند آخر معقل من أنصاره في المدينة المنورة ولكنه لم يخلد إلى الراحة ولم يلجأ الى الدعة ولم يسترح من وعثاء السفر، لأنه صلوات الله عليه ما عرف الراحة يوما من الأيام، من أجلنا نحن، ومن أجل إيصال رسالة الله إلينا بيضاءَ نقيةً، لا غبرة عليها ولا قترة، فلقد كان همه أمته (إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا). لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة خطوة خاطيها سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة وأتم السلام جاعلا منها أنموذجا تاريخيا عقائديا إسلاميا، فكان خير مهاجر وكانت خير هجرة.