مترعة بالوحل كلّما جادت السماء بما ينعش الأرض ويبعث الحياة، ضاحكة من الأسى وجوه ساكنيها، سقياهم بلاءٌ لا يقدرون مَنعه أو أن يسألوا الله بُعده.
تتثاقل إلى الأرض خشوعاً، وتهتز أركانها ارتعاشاً، وترتجف أوصال من فيها برداً وقهراً، لا دارَ يرجعون إليها، ولا جدارَ يركنون إليه، ولا أرضَ صلبة يقفون فوقها، فالوطن كلُّه كالخيام يتهاوى، وهم وحدهم الموكَّلون بعيش سكراته.
يدعون الله أن يمرَّ غيثه دون أن يأخذ معه من يحبون، دون أن يشرِّد البردُ الأطفالَ مرضاً، والكبار سهراً وألماً، دون أن تتحول الأمطارُ سيولاً تجرفهم إلى نزوح جديد، وإلى تشرد حيث هم، بلا مأوى، وأن يزداد الكدرُ كدراً، والغصصُ اختناقاً، والألمُ جرحاً.
يسألون الله خاشعين، أن يمرّ هذا العام بلا ثلوج، وأن يصبر أطفالُ المناطق القريبة على جمال اللعب بالثلج، وأن يتناسى الفلاحون حاجات أرضهم، فكلُّ الخير والنقاء الذي يرافق الثلج لا يعني لهم سوى لون كفنهم الملطخ بالوحل والعجز والفاقة والخلاص.
في الليل تختفي أوجاعهم، يصمت صوت صياحهم إلا من بعض الأنين، ينام الأطفال من الحمّى ويسهر الكبار من الألم، ليمضي ما بقي من الشتاء وقد دفنَ من استطاع منهم، ونخرَ عظام الباقين. ونحن …
نحن نكتب ونبكي في كل عام، نتأثر لدقائق أو لساعات، نبتسم للأمطار حيناً ونضحك للثلج أخرى، نوزع ملابسنا البالية لمن يذهب إلى هناك لنساعدهم بها، ونخفي دعوة عابرة بأن يساعدهم الله، كأننا قد أدَّينا حقهم، وفعلنا ما نستطيع، أو قلنا: (ما باليد حيلة)، وقبضنا أيدينا إلى رؤوسنا ونحن ندسها في فراش دافئ ونستمع إلى موسيقا تناسب صوت المطر، ثمَّ نُكمل حياتنا ونحن نتأفّف من حال الوطن وأهله، ونسعى للبحث عن خلاصٍ من قسوة الغربة التي تُتعبنا بقربها من حدود الوطن والواجب.
هناك من بعيد سيكون نصٌ كهذا أكثرَ إيقاعاً وأشدَّ حنيناً، حيث يحجزنا البعد ونتمنى أن نكون أقرب لنفعل، و (ما باليد حيلة) تصبح أكثر إقناعاً وجدوى.
إنَّ مستقبل أطفالنا يحتّم علينا أن نعيش أفضل، فصعب علينا أن نعيش شهراً واحداً بنصف ما نملك، أو نضحي ببعض ما ندَّخر لمساعدتهم. سيُخيم علينا إحساسٌ بغيض بخسارة بعض الرفاهية، أو معاناة شيءٍ من الحاجة، إنَّ ما نعيشه هو قدرنا، وإنَّ من اختارهم القدر للخيام هو قدرهم… أليس كذلك؟!
المدير العام | أحمد وديع العبسي