عندما يتخلى عنك أقرب الناس إليك وتصبح بلا ملجأ تكمن المصيبة الكبرى، لتعاني مرارة الوحدة والفقد، فقد عُجِنت طينة البشرية على الألفة والكيان الأسري، وجبلت الفطرة على الاندماج والعيش ضمن عائلة كيانها الأب والأم. ومما يبعث الحزن ويجعل الكلمات خرساء رفضُ الأبناء رعاية آبائهم بعد وصولهم إلى مرحلة الشيخوخة وحاجتهم الملحّة للرعاية والأمان، فبزيارة إلى دار العجزة ترى النزلاء الذين باتت هذه الدور دارهم الأخيرة في حياتهم، وذلك لأسباب عديدة كرفض الزوجة رعاية والد زوجها أو والدته، أو سفر الأبناء وعدم القدرة على اصطحاب آبائهم أو لعدم تحمل نفقاتهم وغيره الكثير..
(دار اسقاط للعجزة) أحد المراكز الذي أنشئ في سورية المحررة، يحتضن العديد من الحالات الإنسانية المختلفة.
صحيفة حبر قامت بزيارة للدار، والتقت القاضي السيد (محمد نور حميدي) مدير الدار الذي حدثنا عنها بقوله: “الدار تأسست في جسر الشغور عام 1950 وعندما تم تحرير الجسر في عام 2015 تفاجأنا بوجود النزلاء دون طعام وشراب ما يقارب أربعة أيام، ولا يوجد أي شخص من الموظفين الذين كانوا في الدار، فتم نقل الدار إلى بلدة اسقاط بعد اتفاق مع المجلس المحلي وتامين دار مؤلفة من طابقين، الطابق الأرضي يحوي أربع غرف وصالة وساحة ومسبح، وطابق علوي لم يتم تجهيزه بعد.”
وعن عدد النزلاء يقول: ” يتراوح بين 8 و15 منهم من يقطنون بشكل دائم في الدار وبعضهم من الزائرين لحين أن يجدوا أهلهم وذويهم.” وبحسب ما ذكر حميدي توفر الدار للنزلاء كل احتياجاتهم من مأكل ومشرب ولباس، ويوجد مشرفة تقوم على خدمتهم والإشراف على أمورهم من تنظيف المكان والطبخ، وتُقيم معهم بشكل دائم لتوفير جو أسري مقابل راتب شهري، كما يوجد جندٌ مجهولون متطوعون يقدمون خدمات لنزلاء الدار كتأمين الاحتياجات التي تلزمهم.
عرض السيد حميدي بعض الحالات المؤثرة مثل: سمر خميس، التي وجدت في مغارة بكفر تخاريم حبيسة والدها ولم تجد النور منذ ولادتها حتى بلغت سنَّ العشرين، وهي الآن تقطن الدار منذ حوالي خمسة عشر سنة ليصبح عمرها خمسا وثلاثين عاما، عانت خلف قضبان الماضي مرارة الظلم والقهر، ولم تجد صديقا لها سوى الكلب الذي رافقها رحلتها وقاسمها قطعة الخبز ورشفة الماء التي كان يحضرها والدها لرفض زوجته رعايتها، والكثير من الماسي كالطفل صاحب الخمسة أعوام الذي وُجد على باب الدار وبلغ اليوم ثلاثين عاما لا يعرف من أهله ومن أقرانه، جميع أولئك وجدوا في الدار حضنا دافئا يرعاهم.
وأخيرا وجه السيد حميدي رسالة لتقديم العناية للنزلاء وكل مشرد تقطعت به السبل ولم يجد أملاً لينعم بحياة أسرية دافئة، فالنزلاء يعانون الفقد ولا يوجد من يتفقد أحوالهم أو يزورهم، ويأتي إلى الدار حالات عديدة، لكن ضعف إمكانيات المركز وعدم وجود مبادرة من أي جهة يمنعنا من استقبالها.
ما الذي يدفع أباً لحبس فلذة كبده؟! وما الذي يدفع ابناً لوضع أمه في دار العجزة؟! ومن المسؤول عن الظلم وقسوة القلوب؟! أسئلة كثيرة تجول في خاطر المقيمين في دار العجزة، ترى هل سيجدون ملجأ وأماناً طالما افتقدوه؟!