قبل انتفاضة العام 2011 في سورية، كانت مدينة دير الزور مركزًا لأربع مناطق محيطة بها، تفصل بين تجمُّعاتها السكانية مسافات شاسعة، لكن سنوات الصراع حطّمت هذه العلاقة، تاركةً المناطق المحيطة بمدينة دير الزور منقطعة الأوصال عنها، ومستقلة إلى حدٍّ كبير عن بعضها البعض.
وقد أدّت الحرب ضد تنظيم الدولة في هذه المناطق إلى تَشرْذُم خطير، ولكل طرف من الأطراف العديدة المنخرطة في شرق سوريا أولوياته الخاصة.
فمن جهة، يسعى النظام إلى استخدام السيطرة على المنطقة لإعادة ربط شرق البلاد بوسطها وجنوبها، وترى الولايات المتحدة، من جهة أخرى، أن محافظة دير الزور أساسية لتأمين السيطرة على مناطق عدة على طول الحدود العراقية.
ويحاول أفراد الجيش السوري الحر المتحالفون مع قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، في المقابل، إيجادَ فرصة لاستعادة بلداتهم، وتسعى الوحدات الكردية، المتمركزة ضِمن “قوات سوريا الديمقراطية”، إلى السيطرة على المزيد من الأراضي في دير الزور، لاستخدامها ربما كورقة ضغط للنهوض بأجندتها في منطقة الجزيرة شمال شرق البلاد.
ولأن القبائل المحلية لم تعد قادرة على حشد أفرادها من دون الحصول على دعم خارجي، يُرجّح أن يبقى معظمها بطريقة أو بأخرى رهينة الأجندات الخارجية، ما يضمن أن تظل هذه المنطقة مُجزَّأة جغرافيًّا.
حافَظ نظام الأسد على وجود عسكري لا يُستهان به في دير الزور، إذ تضمّ هذه المحافظة أكبر قاعدة عسكرية في شرق سوريا، ناهِيك عن أنها مقرّ المخابرات الجوية النافذة لمحافظات الحسكة والرقة ودير الزور.
وطوال فترة الصراع الحالي، دافع النظام بشراسة عن القاعدة الجوية العسكرية المُجاوِرة لمدينة دير الزور، حيث تمركز قادة من قوات الحرس الجمهوري “النخبة”، ما سلّط الضوء أكثر على الأهمية التي يُولِيها النظام لهذه المنطقة.
حتى في أيامنا هذه، تحصد الجهة التي تنجح في بسط نفوذها على منطقة شرق سوريا منافع اقتصادية كبيرة، فهي تقع على الحدود مع العراق، ويمكنها بالتالي الإفادة من التجارة العابرة للحدود، كما أنها تضمّ احتياطياتٍ كبيرةً من النفط، إذ تحتوي على 68 بئرًا نفطية من أصل 114 بئرًا في أرجاء سوريا،، قبل الحرب، كانت تُستخدم إيرادات هذه الآبار النفطية للمساهمة في تمويل قوات الحرس الجمهوري المكلَّفة أساسًا بحماية النظام، هذا يفسّر لماذا بادر النظام إلى إرسال وحدات “اللواء 104” من قوات الحرس الجمهوري للدفاع عن القاعدة الجوية العسكرية في أولى فصول الصراع السوري.
ستنتهي الحرب ضد تنظيم الدولة عاجلًا أم آجلًا، لكنها في غضون ذلك ترسم واقعًا جغرافيًّا جديدًا سيغيّر مكانة دير الزور، وفي مرحلة ما بعد التنظيم، لن تبقى دير الزور مرتبطة بكلٍّ من الرقة والحسكة كما كانت تاريخيًّا، لكنها ستحافظ على ارتباطها بدمشق من خلال طريق تدمر، والسبب هو أن الرقة والحسكة لن تكونا على الأرجح تحت سيطرة النظام، بل جهات أخرى، كحال مناطق دير الزور التي سيطرت عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، وهذا قد يشكّل تحوّلًا كبيرًا في الديناميكيات الاقتصادية والسياسية في شرق سوريا، ويقلب النظام الاقتصادي والسياسي في المنطقة رأسًا على عَقِب، ما سيُؤدّي إلى مضاعفات جمّة تُلقِي بظلالها على مستقبل سوريا.
المصدر:الدرر الشامية مترجم عن معهد كارنيغي