فرات الشامي |
لم يكن تنجيماً أو رجماً بالغيب الحديث المتكرر حول مصير المدنيين السيء في حال انتصر اﻷسد على معارضيه، إن جاز لنا تسمية الدمار اﻻجتماعي والسياسي الذي وصلت إليه سورية بالانتصار؛ فثمة صفحاتٌ تاريخية تحكي، وشواهد عشناها أو سمعنا عنها تبرهن أنّ اﻻستعلاء والحقد آلةٌ تسوس الناس كالعصا أمسك بها حافظ اﻷسد وأورثها نجله بشار؛ لقيادة البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي أو ما يعرف شعبياً باسم “أحداث حماة”.
ومن الطبيعي أن تستمر سياسة اﻷسد اﻻبن وفق المسار المرسوم والسكة التي وضع عليها؛ فالكتابات على الجدران ولوحات الحائط التي اعتلتها صورة حافظ اﻷسد وخلفه باسل وبشار، مذيلة بعبارة، “على النهج باقون” إبَّان عملية توريث السلطة منتصف العام ألفين، تلك الكلمات التي تفسر الأسلوب الهمجي في التعاطي مع الشارع، باعتبارها “عقيدة الوﻻء والبراء” التي ارتكزت عليها عقلية آل اﻷسد وشبيحتهم، بعد دفن القيم اﻹنسانية الحضارية، وبكل اﻷحوال المنتصر وحده من يفرض شروطه، بغض النظر عمَّن أسهم في تثبيت حكمه.
مرةً أخرى، درعا تعود إلى الواجهة وتتصدر الحدث، حتى وإن غابت بعض الشيء نتيجة السخرية الشعبية من خسارة منتخب البراميل في تصفيات كأس آسيا، فضلاً عن حملة التهكم التي بدأها الموالون بسبب اﻷزمة اﻻقتصادية التي استعصت في مناطق سيطرة النظام السوري وبروز عجز في احتوائها.
وعلى عكس المرة السابقة قبل 8 سنوات اختلف الوجه واﻷداة، وأطل محافظ النظام في درعا (محمد خالد الهنوس) ليوجّه إهانة إلى عدد من وجهاء المحافظة خلال اجتماع معه لبحث مطالب الأهالي وما تعانيه مناطقهم حالياً من حالة غليان شعبي نتيجة سوء الأحوال المعيشية، في ظل عجزٍ من حكومة النظام عن تأمين الغاز، والكهرباء والمازوت والماء وحليب الأطفال، للمواطنين؛ ليبرهن برده أﻻ شيء تغير، بل عودةٌ حقيقية للقبضة اﻷمنية.
فبحسب (تجمع أحرار حوران)، جاء رد “الهنوس” على مطالب الوفد: “هذا الموجود واللي مو عاجبو الحدود بتفوّت جمل، الله معاكن عندي شغل”. وهذا ما يتعارض مع الدعوات الكاذبة للعودة إلى “حضن الوطن”.
ربما أتى الرد هذه المرة من شخصيةٍ ترتدي ربطة عنق، توحي بالمدنية ظاهرياً، غير أنها خرجت من مشكاة الجحور المخابراتية التي تعيد إلى اﻷذهان واقعة “رئيس فرع الأمن السياسي” بدرعا (عاطف نجيب) عندما أهان وفداً من أبناء المحافظة أثناء مطالبتهم بإخراج أبنائهم “اﻷطفال الصغار” الذين كتبوا عبارات مناهضة ضد نظام الأسد التي كانت السبب في إشعال شرارة الثورة السورية في آذار 2011.
والمتتبع للوقائع التي تدور على اﻷرض في مناطق نفوذ ميليشيا اﻷسد، ﻻ يغيب عنه مطلقاً أنّ ثمة جمرٌ تحت الركام، ينتظر اللحظة المناسبة للاحتراق، وعوامل الثورة ما تزال قائمة، بل تحمل طبيعة مختلفة وأسباباً أقوى ودوافع انتقامية أكبر، ضمن اﻹطار الوطني الذي يحمله أبناء الشعب السوري المقهور، ليس في درعا وحدها، بل عموم اﻷرض السورية، والشاهد على وجود حراك سلمي وعسكري تنامي حاﻻت اﻻغتيال لشخصيات ورموز تتبع للنظام، مع انتشار واسع مؤخراً لصورٍ وكتابات جدارية تطالب بإسقاط الأسد وتؤكد أنّ الثورة عادت إلى سيرتها اﻷولى، بخطواتٍ مشابهة تماماً.
بالمجمل؛ المسألة مسألة وقت، فالنظام السوري غير قادر على ضبط المدنيين الذين تنسموا عطر الحرية لسنوات، حتى وإن شاب تلك الفترة بعض المنغصات، لكن الطريق إلى الشارع بات معلوماً، ﻻ يمكن أن تضلله العتمة، وتقهره آلة الحرب، بل إن المؤشرات التي تأتي على ألسنة بعض رموز الفن المتهكمة من الواقع، تؤكد عدم القدرة على احتوائها، وأن ثمة طوفان سينقل اﻷسد إلى المجهول.
أما مبدئياً، فإننا نعاين واقعياً المثل الشعبي القائل، “عادت حليمة إلى عادتها القديمة”… وهي عبارةٌ تكفي لاختصار عقلية النظام السوري، ومخلفات الفكر المخابراتي والعنجهية الموروثة في صقيع دولة الأسد منذ السبعينات.
ولعل التاريخ سيكتب ويدرس اﻷجيال القادمة بأنّ درعا من عاطف نجيب إلى خالد هنوس وجهان لعملة و…؟!!، والمعنى في قلب الشاعر.