كلنا يحفظ مقولة ” التاريخ يعيد نفسه “، لكن من منا يستفيد من التجارب التاريخية ليستخلص منها العبر والدروس لإثراء حاضره، وبناء مستقبله؟
ما نشهده من تمدد إيراني بالمنطقة، متخفٍ بستار طائفي شيعي، ما هو إلا محاولة لاستعادة أمجاد الأكاسرة الأوائل، الذين سقطوا بمعاول المسلمين الأوائل.
لذلك سنحاول بهذه السلسلة من المقالات دروس وعبر من سقوط الأكاسرة أن نخرج ببعض الدروس التاريخية العملية، التي ممكن أن نستعين بها، لنسير بضوئها نحو النصر الثاني على أحفاد الأكاسرة.
نبدأ مستعينين بالله….
البدايات
بعد صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش، تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لمراسلة ملوك زمانه، وأرسل رسالة لكسرى أبرويز مع الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي، وصلت الرسالة لكسرى أبرويز، واستشاط غضبا لما اعتبره إهانة أن يرسل له أحد العرب وهم عبيده _ بظنه _ رسالة يطلب منه فيها أن يتبعه على دينه، مقابل أن يتركه ملكا على الفرس.
مزق كسرى أبرويز رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وطرد رسوله، وأرسل إلى عامله في اليمن ” باذان ” أن يبعث إلى المدينة برجلين قويين يحضران له النبي صلى الله عليه وسلم.
وصل عبد الله بن حذافة للرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على كسرى أبرويز أن يمزق الله ملكه، وفعلا عدا ابنه ” شيرويه ” عليه وقتله، واستلبه ملكه.
رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين من اليمن، فكره منظرهما لأنهما يطيلان شاربيهما ويحلقان لحيتيهما، وقال لهما ائتياني من الغد، وأوحى الله إليه أن كسرى قد قُتِلَ على يد ابنه، فأخبر الرجلين، وعادا بالخبر لباذان، ثم وصل كتاب شيرويه بن كسرى لباذان بما صنعه، ويأمره به بعدم التعرض للمسلمين، وأسلم باذان في اليمن، وصار ملكا عليها تابعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف تكون بدايات الحملات العسكرية الناجحة؟
في عام 12 هجرية كان المسلمون قد فرغوا من إنهاء المرتدين، وتوطدت دولتهم في الجزيرة العربية، وكان الفرس غارقين بمشاكلهم الداخلية ونزاعاتهم البينية، وكانت هذه السنة بداية فتح فارس.
وهنا درس استراتيجي مهم ألا تبدأ بقتال أعدائك قبل تأمين جبهتك الداخلية، وأن تستثمر وقت الفوضى والاضطراب لديهم حتى تستعد لهم وتحاربهم، ولذلك أنت بحاجة لعمليات استخباراتية وعيون في معسكر عدوك تنقل لك أخباره أولا بأول.
بدأت الغزوات بإغارات عسكرية محدودة على أطراف مملكة فارس، تهدف لكسر هيبة العدو، واغتنام ما يمكن منه، واستطلاع أراضيه ونقاط ضعفه، وتعقيد مشاكله الداخلية دون إثارة انباهه لنية الغزو الشامل، وإيهامه أن غارات المسلمين ما هي إلا حركات تمرد على أطراف الدولة.
كانت هذه الهجمات التي تشبه حرب العصابات بلغة اليوم، بقيادة قائد عسكري مسلم متميز، سيكون لنا معه وقفات كثيرة، هو المثنى بن حارثة الشيباني.
جهز المثنى خطة فتح العراق، وأرسلها للخليفة أبي بكر، الذي وافق عليها، ودعمها بأمهر القادة العسكريين، كخالد بن الوليد، وعِياض بن غُنْم.
اقترح خالد بن الوليد، بدأ الفتح للعراق عبر تقسيمه لقطاعات، ويكون القطاع الأول غرب نهر الفرات، لجعل النهر حاجزا طبيعيا بين المنطقة المحررة، وبين مناطق الفرس الأخرى حتى لا تصلها الإمدادات.
وقرر خالد فتح جبهتين متباعدتين في قطاع غرب الفرات، لتشتيت ثقل الفرس العسكري، والجبهتان هما
جبهة جنوبية من الأُبلّة بقيادته
وجبهة شمالية من المسيّب بقيادة عياض بن غُنم
وهدف الجبهتين الوصول للحيرة، المدينة الرمزية لدى العرب، لأنها عاصمة المناذرة، المملكة العربية التابعة للفرس، ومن يصل أولا لها يصبح هو القائد العام.
قبل بدء العمليات العسكرية أمر الصديق قادته العسكريين، بأن يتألّفوا أهل فارس ومن عندهم من أقوام، وبلغة اليوم يعني تحييد المدنيين عن الحرب، والإحسان إليهم حتى لا يقاتلوا المسلمين، ولينجذبوا للإسلام، لأن الفتوحات الإسلامية دافعها الأول هو العقيدة ونشر الدين، وهذا يبرهن على سعة اطلاع الصديق بالأوضاع الاجتماعية والسياسية للبلد المراد فتحه، إذ كان المدنيون في فارس ضحية للظلم والاستغلال من القيادة السياسية للدولة.
نصح الصديق أيضا قادته ألا يستعينوا ببداية العمليات العسكرية بمن ارتد، أو بمتكاره عن القتال، لأن المرتدين لم يجتازوا بعد مرحلة نضج التربية العقائدية ليصبحوا مسلمين موالين تماما للإسلام وخليفته، ولأن المتكارهين ( المجندين إجباريا ) سيكونون عبئا إضافيا على الجيش.
وفعلا بدأ خالد حملته من الجنوب بألفي مقاتل نخبوي، وعمل على توحيد الجهد العسكري بضمه قوات المثنى المتخصصة بحرب العصابات، وغيرها من تشكيلات حربية إسلامية جنوب العراق، إلى أن بلغ جيشه 18 ألف مقاتل، ومع ذلك طلب خالد المدد الإضافي من أبي بكر، إدراكا منه بعبقريته العسكرية لحجم عدوه، وضخامة قواته، وفعلا أمده الصديق برجل واحد فقط، وصفه بأن صوته في الجيش خير من ألف فارس، هذا الرجل الجيش بنفسه، هو القعقاع بن عمرو التميمي.
يتبع…