15/7/2016
بعد يوم عمل طبيعي جدا، والوقوف مدة أربع عشرة دقيقة في محطة الحافلات لأصعد إلى تلك الحافلة المكتظة بالموظفين، والتي أفضلها رغم قسوة الازدحام فيها عن سيارة والدي…!
وصلت إلى البيت ليبدأ الروتين اليومي، تقرير أقدمه عمَّا فعلته في ساعات العمل انتقالاً للقيام ببعض الأعمال المنزلية، منتهية بجسد يكاد الإرهاق أن يخفيه على فراشي المعتاد على تعبي، لأبتعد قليلا عمَّا حولي وأغرق بجولتي بين سطور البحر الأزرق والدردشات المؤجلة منذ الصباح، كان الوقت قليلا قبل أن أسمع صوت التلفاز يعلو تدريجيا ليطغى على صوت الموسيقا الصاخبة في أذني، كان صوته قد ملأ ذلك البيت الذي لا يهدأ، لم يستغرق وصولي إلى غرفة الجلوس سوى ثوانٍ معدودة، إلا أنَّ تلك الثواني كانت كفيلة بفتح خيالي المتشائم عند سماعي كلمة يا ألله يا رب استر، ثوانٍ ذهبت بي إلى بلدي، هناك حيث الدمار والقصف والخطر الذي يحيط بإخوتي وأقاربي، لكنه لم يصب هذه المرة، انتهت تلك الأفكار عندما سقط نظري على شاشة التلفاز المكونة من اثنين و خمسين بوصة، لم يمر على شرائها سوى بضع أيام … شريط أحمر عريض في أسفل الشاشة، صور جيش وسلاح و دبابات … جسر معلق مغلق يحتله الظلام، لم تكن الأخبار العاجلة تبدأ بمقتل وأرقام، ولم تكن الدبابات في حالة حرب، ولم يكن الجسر المعلق بحجم ذلك الجسر الذي ابتلعته مياه النهر، هنا تيقنت أنَّ ذاك الأحمر لا يحمل اسم بلدي، فقد كان ينقل خبر انقلاب…. انقلاب عسكري … شعرت بالرعب مع أني لا أعرف الكثير عن معنى الانقلاب العسكري … جلست جاحظة العينيين محاولة فهم شيء … فتبدأ الاسئلة – ما معنى انقلاب – ما الذي سيحدث -لم أجد أجوبة، لا من أبي وأمي، وحتى أخي المثقف الذي لا تخلو أحاديثه من التحليلات التزم الصمت، لم يتوقف ذلك الشريط، و مع كل دقيقة خبر جديد يحمله لنا، و إذا بي أقول بصوت مرتفع ليسمعوا سؤالي: (أبي أين سنذهب ) عندما نطقت بهذا السؤال لم يكن لوحده، كان في داخله الكثير من الأسئلة، ما الذي سنفعله؟ هل اقترب رحيلنا؟ وماذا عن تعب ثلاثة أعوام والجامعة التي ظللت أربعة أيام لأستطيع أن أتم التسجيل فيها، وعملنا الذي نكسب منه قوت يومنا، هل سيختفي هو الآخر؟ والبيت الذي تسَاعد الجميع فيه، حتى هي الشاشة الجميع اشترك بثمنها!
يطبق الصمت على المكان، جميع العيون شاخصة تترقب أي كلمة أو تعليق يوضح ما يجري، سحب الدخان تملأ البيت من كثرة السجائر المتتالية، صوت المذيع يحتل رأسي، انقلاب، استيلاء، هجوم، نهاية بحظر تجوال، رسائلي قد انقلب حالها فتغير محتواها لتصبح رسائل اطمئنان، ودعوات يا إلهي، أين سنذهب؟ استمر الخط الأحمر بالأخبار، إلى أن وصلت إلى اليأس والشعور بأنَّ كل شيء قد بدأنا الاعتياد عليه، قد يذهب كل شيء عشناه هنا، الذي أصبح بمثابة الجوهرة، حتى تلك الحافلة المكتظة قد تحسرت نفسي عليها، لأخرج راكضة إلى الشرفة التي جعلتني أرى ما أبكاني، رجال، نساء، أطفال، عجز، علم أحمر في أيديهم، صوت هتَّاف أزاح من رأسي صوت المذيع، لم أفهم شيء مما قالوه سوى الله اكبر، الهتاف يعلو وعددهم يزداد، تبدأ الجوامع بالأذان، لم يكن وقت الصلاة، لم يكن هناك سبب لأجد عيوني مليئة بالدموع، لم أستطع تحديد سبب دموعي الممتلئة في عيوني و أنا أشاهدهم جميعا، أسمعهم جميعا منتظرة خبرا سارا، لأسقط فرحا بأنَّ ما أسموه انقلابا انتهى قبل أن أعرف عنه أي معلومة، سقطت دموعي على تلك الشرفة، سقطت بغزارة هؤلاء الناس والأعلام والهتاف، سقطت ليقف أخي أمامي مستغربا من شعوري بالفرح ويسألني: (أ لهذه الدرجة تخافين على هذه البلد) وإذا بتلك الابتسامة الغامضة التي جاوبت بصمت: خوفي كان لمستقبل حلمت به رسمته بخطوات أتعبتني.
خوفي كان عليك وعلى أبي، كان على أمي وبيتنا البديل.
خوفي كان من معاناة تتكرر لنتذوقها مجددا، جاوبت بصمت: أعتذر دموعي لم تكن لكم، كانت لما حلَّ بنا، كانت لبلدي، كانت شوقا ليوم أعود فيه إلى سوريا وأهتف بقوة أكبر مما هتفتم، كانت دموعا كاذبة