براءة الحمدو |
يُثير مصير إدلب والثورة السورية عمومًا تساؤلات وتكهنات تخصُّ الأسباب والمعطيات والنتائج التي أودت بالوضع السوري إلى ما عليه اليوم، ومِن وراء إفشال العملية السياسية ومن قبلها العسكرية، وعلى تقزيم مطالب الشعب وتقويض المساحات المحررة عبر اتفاقات المعايير المزدوجة والهشة كآستانة وسوتشي، ولمعرفة التفاصيل أكثر يسر “صحيفة حبر” أن تستضيف برهان غليون الرئيس الأسبق للمجلس الوطني السوري.
د. برهان كيف تحولت “القضية السورية” من محور جنيف إلى آستانة؟
“كان هذا عمل الدبلوماسية الروسية التي أرادت أن تفتح مسارًا موازيًا لمسار جنيف تتحلل فيه من التزاماتها بقرارات مجلس الأمن. وسعت من خلال المسار الجديد إلى كسب تركيا وإيران إلى جانبها على حساب المجتمع الدولي والدول الغربية والعربية كافة. وشجعت قسمًا من المعارضة العسكرية على الانخراط في هذا المسار بوعود مختلفة لـ “خفض التصعيد”، أو بالتوصل إلى تسوية سياسية تحولت إلى تسويات ومصالحات جزئية أجهزت على روح المقاومة والقتال عند القسم الأكبر من الفصائل المقاتلة والمشتتة أصلاً من دون قيادة مركزية. كان المسار تكتيكًا روسيًا إيرانيًا ماهرًا لتعطيل قرارات مجلس الأمن وإغراء الفصائل المنهكة بتسويات تضمن وجودها في هدن متعددة. لكن كان وراءه أيضًا شعور العديد من هذه الفصائل، بعد التدخل العسكري الروسي، بانسداد أفق الانتصار، وبحث كل منها عن مخرج لنفسه من الصراع الذي أصبح من دون أفق مع غياب القيادة السياسية.”
برأيك لماذا أحدثوا للمعارضة السورية منصات (موسكو، القاهرة والرياض)؟
“كان الهدف من منصات موسكو والقاهرة والرياض تشتيت المعارضة السياسية والتلاعب بتناقضاتها والرهان على مطامح الأفراد الشخصية لتوجيه ضربة قاصمة لصدقية المعارضة ككل، ومن ثم تقويض موقعها “القيادي” لدى الجمهور الشعبي المعارض وإظهار اختلافاتها وتناقضاتها، ومن وراء ذلك تأكيد نظرية انعدام البديل لنظام الأسد وسلطته، أو إبراز الدليل على ذلك لدفع السوريين إلى القبول بأي حل، أي بالحل الروسي القاضي بالاحتفاظ بنظام الأسد بوصفه الحكومة الشرعية.”
رأينا فيما سبق كيف سقطت المدن السورية (مناطق خفض التصعيد الثلاثة كما نصّت مذكرة آستانة ٢٠١٧) تباعاً، والسؤال: هل من المعقول ذهاب المعارضة إلى مؤتمرات (سوتشي_ آستانة) أُعدَّت خصيصاً لتصفية القضية السورية وتسليم مفاتيحها للعدو المحتل؟
“نعم. عندما تكون المعارضة مفتتة ومكونة من مجموعات وجيوش متناحرة، يفتقر معظمها أو معظم “قادتها” للرؤية الإستراتيجية ووحدة الرأي والإرادة، بل يجهل الكثير منها معنى المصالح الوطنية، ويفتقدون الشعور بالمسؤولية، يصبح التلاعب بها من قِبل الدول الكبرى سهل المنال. وهذا ما ساهمت فيه أيضًا مجموعة الدول التي كانت تسمي نفسها أصدقاء الثورة السورية التي صدقت الوعود الكاذبة الروسية وخففت بل قطعت الدعم عنها. “
هل أصبحت مشكلة “الشعب السوري” متركزة فقط “بالدستور” بعد كل الجرائم المرتكبة بحقّه؟ ألم يخرج الشعب ثائراً ومطالباً بإسقاط النظام؟!
“بالتأكيد ليس الدستور سوى الوثيقة النهائية التي تُكرس تفاهم القوى المتنازعة على إطار قانوني وسياسي لإعادة بناء الدولة والنظام السياسي، بعد فشل الأولى وانهيار الثاني. وكما هو واضح تهدف كتابة الدستور قَبل التفاهم بين أطراف النزاع الداخلية إلى تجنب التفاوض الحقيقي حول المسائل الرئيسة المتعلقة بإعادة هذا البناء، وبالتالي فرض التصور الذي تريده موسكو على نمط تنظيم شؤون المجتمع السوري في المستقبل. وتعتقد موسكو التي فرضت هذه المسار أنها تستطيع، من خلال إيجاد الحلول والتسويات اللفظية إعادة تجبير كسور دولة الأسد المحطمة والتغطية على واقع غياب التفاهم والاتفاق وإخفاء التصدعات الحقيقية.”
هل حجم التمثيل السياسي والعسكري للمعارضة السورية في “آستانة” كافٍ للمفاوضات مع المحتل؟
“المشكلة ليست في حجم التمثيل السياسي والعسكري للمعارضة، لكن في نوعية هذا التمثيل وبُنيته وجدول أعماله.”
هل هناك أمل في إحياء مسار جنيف مجدداً؟
“نحن نعرف أن تصور مسار جنيف قد نبع من افتراض وجود طرفين يسعيان أو يمكن دفعهما إلى التفاوض للخروج من النزاع قبل أن يصبح مسلحًا أصلاً، والتوصل إلى تسوية تضمن، حسب المبادرة العربية والدولية التي بُني عليها مسار جنيف في حزيران 2012، تشكيل حكومة انتقالية تجمع بين طرفي النزاع، الشعب والمعارضة من جهة والنظام والحكومة الممثلة للدولة من جهة ثانية. الحال أن النظام لم يعترف أبدًا بهذا المسار ولم يقبل أن يكون طرفًا في مفاوضات مع معارضة اتهمها منذ البداية على أنها مؤامرة دولة وإرهاب، فوضع مسار جنيف قبل أن يُولد في طريق مسدود، وهذا ما أكده ممثلو النظام ثم الإيرانيون والروس الذين أصرّوا جميعًا على تثبيت النظام كما هو، أو مع بعض التعديلات التزيينية، واختاروا الحل العسكري، كما هو واضح، منذ ثماني سنوات ونصف لتحقيق هذا الهدف. واختصار العملية السياسية برمتها في مسألة التوصل إلى تشكيل لجنة دستورية، والصراعات الدائرة من أجل الهيمنة عليها من قبل النظام والروس ليسا سوى الوجه الآخر المُكمِّل لرفض التفاوض الجدي ومسار جنيف وتبني مسار الحسم العسكري الذي لا هدف له سوى تجنب التسوية السياسية والمحافظة على نظام الأسد ومن ورائه تثبيت الانتداب الروسي وترسيمه.”
إلى أين تتجه المسارات والسيناريوهات حول منطقة إدلب؟ هل الأمر سيؤول إلى سيطرة الأسد أم المصير هو التقسيم؟
“لا أعتقد أن هناك مشروع تقسيم بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن سيكون هناك مناطق نفوذ بالتأكيد. وجزء من الشمال الغربي سيستمر يخضع للنفوذ التركي فيما إذا نجحت تركيا في السيطرة على هيئة تحرير الشام التابعة للقاعدة. لكن على العموم لم يُحسم أمر المنطقة بعد وبانتظار أن يتم تفاهم نهائي بين روسيا وتركيا. الطرفان يضغطان على بعضهما ويتحينان الفرص لانتزاع المزيد من النفوذ والسيطرة في المنطقة، والأمور بالتالي غير مستقرة من دون أن يعني ذلك الحسم العسكري القريب.”
ما مصير الفصائل المقاتلة على الأرض في الشمال السوري؟ وما هي رسالة التحالف الدولي في ضرب شخصيات ضمن هيئة تحرير الشام؟ أهو تمهيداً للسقوط والسيطرة أم تصديقاً لِما قالوه في محاربة الإرهاب؟
“كما ذكرت، مصيرها مرتبط بالتفاهم التركي الروسي الذي لا يزال غير واضح أو مكتمل بعد، ولا ينبغي أن نفهم المعركة ضد الإرهاب خارج سياق التنافس والصراع على النفوذ داخل سورية. ليس القضاء على هيئة تحرير الشام قضية منفصلة عن هذا الصراع، والموقف منها مرتبط بشروطه وديناميكياته بالإضافة إلى ديناميكيات الصراع على الهيمنة الشاملة على سورية القادمة ذاتها. “
يدور في أذهان البعض، التساؤل التالي: “لماذا الدول الكبرى تحتفظ ببشار الأسد في الحكم؟ لأنهم لم يجدوا بديله؟
“بالعكس لأنه بسبب ضعفه وتهافت صدقيته واحتراقه، يُشكل أفضل بديل تحلم به القوى المتنافسة على تثبيت مناطق نفوذها ومواقعها المكتسبة في سورية وفي مقدمها إسرائيل. فأي بديل آخر يحظى بالحد الأدنى من الشعبية والصدقية في الداخل السوري والخارج الدولي سوف يكون أصعب قيادًا منه، وربما ساهم وجوده في انبعاث الوطنية السورية، لكن هذا لا يعني أن هذه القوى سوف تحتفظ به للأبد، ومن الممكن أن تستبدله عندما يحين الوقت بغيره، لكن وجوده يُشكل الآن ورقة رابحة للتفاوض والمساومة في يد روسيا وطهران في المواجهة المستمرة التي تتسع دائرتها باستمرار للسيطرة على المشرق والهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. “
على ضوء المآلات الحاصلة والمؤسفة، ما مدى جدوى “المعركة الحقيقية” التي يخوضها الشعب السوري؟ هل سيُسقط رأس النظام على إثرها؟
“معركة الشعب السوري للتخلص من الاحتلالات المتعددة واستعادة حريته واستقلاله وسيطرته على قراره الوطني ستكون طويلة بالتأكيد. وفات الوقت الذي كان من الممكن فيه الحلم بإسقاط الأسد ونظامه بالضربة القاضية. ولن نبدأ في تسجيل أي تقدم ملموس إلا بعد أن ننجح نحن السوريين في مراجعة تجربتنا في الثورة للسنوات التسع الماضية، وإصلاح الأخطاء الذاتية والتنظيمية والسياسية والعسكرية التي وقعنا فيها وقوَّضت جهودنا وحدَّت من تأثير تضحياتنا الأسطورية وحرمتنا من قطف ثمارها. هذه هي مهمة الجيل الجديد الصاعد من رحم الفشل الذي ينبغي أن نراهن عليه بعد تجلي إحباط النخبة السياسية القديمة وموتها السريري.