منيرة بالوش |
(كيماوي كيماوي) هكذا كان الناس يصرخون عندما تم بث الخبر عبر أجهزة اللاسلكي “الصواريخ محملة بغازات سامة” اختلطت الأخبار بأصوات سيارات الإسعاف والدراجات النارية، والقصف بالراجمات يُرافق كل هذه الأحداث كأنه متلازمة مستمرة لا تنقطع، الساعة الثانية ليلاً، لم توقظنا أصوات الصواريخ حينها، بل أفقنا على جملة حديثة، لم نسمعها من قبل! “ضرب كيماوي، والهواء عدو!!”
بهذه التفاصيل العالقة في ذاكرة “صفاء كامل” 35 عامًا من مدينة (عين ترما) في الغوطة الشرقية، تروي لنا المشهد ليلة 21 آب 2013.
تروي صفاء: “استيقظ الناس مذعورين وهم يستنشقون الغازات السامة، دون أن يدركوا أنها تقتلهم، لا مناص من الموت عندما يُصبح الهواء فقاعة كبيرة محقونة بغاز السارين، لا أحد يعرف كيف يتصرف، لم يسبق لنا التعامل مع هكذا حالة، سلاح غير مرئي يخترق أجسادنا دون أن تنزف، يقتلنا ببطء، كان الضحايا بلا دماء هذه المرة.
تفقدت أطفالي الثلاثة، أصغرهم عمره أشهر، حملتهم وخرجت أجري كالمجانين أنا وأختي وأمي لنصل إلى أقرب نقطة طبية بعدما بدت علينا أعراض الإصابة.
كان الناس ملقون على الطرقات، منهم من مات ومنهم من يلفظ أنفاسه بصعوبة، رأيت أطفلاً صغارًا بلا ملابس سقطوا وأهلهم قبل الوصول إلى المشفى، الشباب كانوا يركضون مسرعين لإسعاف المصابين، وسرعان ما يصبح المسعف مصابًا أيضاً.
صمت رغم الضجيج والصراخ، صمت يشبه الموت الذي يسرقهم دون مواجهة، يستل منهم الحياة ويتركهم جثثاً بلون أزرق!
كان أبي يُسعف عمتي وابنها وزوجته الحامل وحفيدتها “آلاء” الطفلة اليتيمة التي مات والداها منذ سنتين في قصف منزلهم، وصلنا المشفى فوجدتهم جميعاً مرميين على الأرض، قدموا لنا إسعافات أولية بسيطة، لا تُوجد معدات طبية كافية، فقط خراطيم المياه بعدما عمم الأطباء في المشافي برش المصابين بالمياه الوافرة خصوصاً العينين، أما من بقي في المنزل فليحكم إغلاق النوافذ والأبواب، وليضع بطانيات وستائر مبللة لتثقل حركة الهواء وتمنعه من التسرب للداخل.
ومع ذلك لم تُنقذ هذه الإسعافات، عمتي وحفيدتها وزوجة ابنها الحامل، ماتوا جميعاً كما مات المئات معهم، لتبدأ مرحلة الدفن رغم أن الأطباء أكدوا للجميع الانتظار خمس ساعات قبل دفن الموتى، لاحتمال وجود أحياء فقدوا الوعي وبدوا كأنهم موتى.
وصلوا مقبرة المدينة، الناس كثر، عائلات بأكملها ماتت، دفن أبي الزوجة الحامل وهي ابن أخته، وهمّ بدفن آلاء اليتيمة، لكنها تحركت!! ضمها إلى صدره وبكى
(يا الله!! لساها عايشة، دخيلك يارب) ثم ضحك أبي من فرحه رغم حضرة الموت، وحالات أخرى أفاقت من موتها المؤقت قبل دفنها، وكثير ربما دفن وفيه بقية روح نائمة.
ولكن آلاء دخلت في غيبوبة بعد إسعافها للمشفى، وماتت بعدها بأيام، لتلحق بأهلها.
لاتزال صورة الناس أمامي، الجميع يُصارع الموت، جحوظٌ في العينين، وزبدٌ يخرج من الفم، وأجسادٌ لونها أزرق!!
شهقات عالية تسحب الهواء ببطء، لكنها لا تدري أنها تجّرُ الموت إلى رئتيها، فتنحل الأعصاب وترتخي لتصاب بحالة شلل كاملة، يرافقها ألم في الرأس واحمرارٌ في العينين، لاحظت هذه الأعراض على أغلب الناس المصابين آنذاك.
لم تنته تلك الليلة الطويلة حتى حصدت أرواح أكثر من 1500 شخص جُلّهم من الأطفال والنساء مدانون بتهمة الإرهاب بعُرف النظام الأسدي الخبيث!
اصطفت الجثث، ولُفّت بالأكفان البيضاء جنبًا إلى جنب، غابت أسماؤهم وحضرت الأرقام التي وثقت أعداد الضحايا في مشهد يُعري الإنسانية جمعاء ويفضح تآمرهم علينا نحن الشعب الذي ثار يوماً ضد طاغية سورية بشار الأسد، فجُوبه بأعتى أنواع الأسلحة التي كان أشنعها الكيماوي.”
ذلك المشهد الذي قصته لنا صفاء بشهاداتها على المجزرة وقتها يُعدُّ جزءًا ممَّا حدث وقصة لامستها ناجية من تلك المجزرة التي حدث جرَّاء سقوط صواريخ من قلب العاصمة دمشق، باتجاه رئتي الغوطة، فسقط أكثر من 14 صاروخًا محملاً بغاز السارين القاتل للأعصاب، على عدة مناطق أبرزها “عين ترما، وكفر بطنا، وعربين، وزملكا، والمعضمية.”
حرص حينها النظام السوري على الرجم بالصواريخ والمدفعية أيضًا؛ لإجبار الناس في الأبنية والطوابق العليا على النزول إلى الملاجئ والأقبية التي تحولت إلى مقابر جماعية؛ لأن الغاز السام يهبط إلى الأرض ويقتل بالمناطق المنخفضة، ليضمن موت أكبر عدد ممكن من المدنيين.” وفي هذه النقطة بالذات تقول صفاء: “عائلات كبيرة بأكملها قضت في تلك الليلة كعائلة (حزرومة) وهي من العائلات المعروفة في الغوطة، إذ مات منها 36 شخصاً دفعة واحدة.”
تلك المجزرة لم تسلم نها حتى الحيوانات، تصف صفاء ما حدث أثناء عودتها إلى منزلها بقولها: “أثناء عودتي إلى المنزل رأيت الكلاب والقطط مرمية على الطرقات، والمواشي والحمام والعصافير كلهم قد نفقوا متناثرين على الأرصفة وفي الطريق، تلك الحيوانات لا ذنب لها سوى أنها تعيش معنا في الغوطة.”
اليوم وبعد ست سنوات مضت على مجزرة الكيماوي لاتزال صفاء وأهل الغوطة كلهم يذكرون هذه الليلة المؤلمة، ويروون تفاصيلها لتصل إلى العالم أجمع وتبقى شاهدة على جرائم ميليشيا النظام الذي أعاد الكرة مرة ثانية وثالثة في دوما وخان شيخون حين لم يجد من يردعه أو يحاسبه.
رغم معرفة أن كل تلك القصص لن تُحرك ساكنًا في ضمير العالم الميت الذي شهد بثاً مباشرة لأحداث المجزرة ومايزال يبحث عن الجاني ولم يعرف من استخدم السلاح الكيماوي حتى الآن، سنبقى نقص القصص ونحكي الحكايا عمَّا حدث ذات ليلة لأهالي الغوطة الشرقية، حين نام الأطفال ليلتهم الأخيرة.