يُعدّ التعامل مع الناس بطريقة إيجابية من أصعب المهام الملقاة على عاتقنا، إذ إننا البشر لا يمكننا العيش بعزلة، وعلينا بالمقابل أن نفهم نماذج إنسانية لا حصر لها تواجهنا في حياتنا اليومية، وينبغي علينا التواصل معها بطريقة فعالة بحيث نترك بصمتنا المميزة في العلاقة مع الآخر في مسارين متوازيين من حسن الخلق وحسن الأداء.
بشكل عام يبدأ الأشخاص الناجحون في علاقاتهم الاجتماعية بالبحث عن نقاط الالتقاء مع الطرف الآخر، وسرعان ما يتم تعزيز الأشياء المشتركة التي تربط بين طرفين سواء في علاقات العمل أو الصداقة أو حتى الزواج وغير ذلك من العلاقات التي ربما تكون عابرة أو مؤقتة.
ومع مرور الأيام تمضي العلاقة الإنسانية في مسارها الطبيعي، حيث تتألق حينا، وتخبو حينا آخر، وقد تواجه العلاقة مع الآخر عوائق وانفعالات سلبية تحرر العلاقة من قيودها أو تجعلها أكثر متانةً وعمقًا، لكن المشكلة الأكبر تكمن فيما يمكن تسميته بـ (إفلاس المشاعر) وهو شعور مفاجئ يصيبنا تجاه بعض العلاقات في حياتنا، حيث تبدأ النقاط المشتركة بالتلاشي وتطفو على السطح نقاط الخلاف، وتبدو العيوب أكثر وضوحًا، ويغدو التركيز أكثر على النقاط السلبية سواء كانت قليلة أو كثيرة، وهنا تدخل العلاقة في طريق مسدود.
القلب في هذه الحالة يلعب دورًا قياديًّا، كأنه الآن يعيد ترتيب الأوراق إن صحت التسمية.
فالعقل يدرك مزايا الطرف الآخر ويعترف بإيجابياته، لكن القلب صار عصيًّا مغلقًا كأنه دكان بارد رفوفه خالية من الاهتمام والمشاعر.
كل منَّا يمرُّ في وقت من الأوقات بتلك الحالة التي تموت فيها مشاعره العاطفية تجاه الأشخاص والأشياء، وتفقد الكثير من المتع الاجتماعية لذتها، فالعلاقة مع الطرف الآخر تصبح مرهقة إلى أبعد الحدود، والطرف الآخر لا يشعر بسلبياته ولا يريد التغيير نحو الأفضل، أضف إلى ذلك ضغوط الحياة المادية وساعات العمل الطويلة، وازدياد مساحة القلق والكآبة في حياتنا على حساب مساحة الاطمئنان والسلام.
في تلك المرحلة لا بد من خلوة مع النفس، وإعادة برمجة العلاقات الاجتماعية وتفعيلها من جديد وفق مبدأ عظيم نصَّ عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: “ذلك مبلغهم من العلم” فالناس من حولنا مختلفون في علومهم وطباعهم وأخلاقهم، وكما يقال في المثل “لكل رأس طربوش يناسبه” وعلى العقلاء دائمًا تغيير أسلوب التعامل بما يتناسب مع كل شخص، وطبيعة كل علاقة، ولا بأس في قطع بعض العلاقات بالمعروف طبعًا، في حال استحالة استمرار العلاقة بين طرفين لسبب ما، فالعلاقة خارج نطاق الوالدين والأخوة وبعض الأقارب تتسم بصفة الحرية، بمعنى أنني لست حرًا في اختيار عائلتي وأقاربي، لكنني حرٌّ في اختيار أصدقائي ومعارفي.
نحن مجتمع قائم على فكرة الوفاء للأصدقاء والعلاقات الإنسانية، لذا نحتاج أن نحرر مفهوم الصداقة من العبودية، لأن بعض الأصدقاء يستعبدوننا بمعروفهم ويرهقوننا بتحمل تبعات عطائهم لنا، وليس نكرانا للمعروف أن تنقطع علاقتك مع صديق أسدى إليك يومًا خيرًا كثيرًا ما دمت تدعو له في ظهر الغيب.
نحن بحاجة للمصالحة مع الذات والظهور في علاقاتنا دون أقنعة، ربما يخلصنا ذلك من عبء المجاملات الاجتماعية ويخفف من حدة الخلافات فيما بيننا “وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ “
يقول الإمام الشافعي:
“الانبساط للناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عن الناس مجلبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط”.
ومرة أخرى نتأمل معًا القاعدة القرآنية “ذلك مبلغهم من العلم” لنجدها دعوة لتقبل الآخر كما هو، دعوة للمسامحة في حال الخطأ، ودعوة بالمقابل لمساحة ودّ حرة، تسمح لي بالغياب عنك والابتعاد قليلاً لترميم قلبي ومشاعري، فلا ترهقني أخي العزيز بمحبتك، بل دعني حرًّا أحبك كما أنت وأدعو الله لك.