البروفيسور أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2019.02.20
بإمكانك تحميل المقال بصيغة pdf من هنـــــا
الفصل الأول:
هل يوجد نظام جامع بين الثورتين اللتين يمكن اعتبارهما بدايتين لبعدي الاستئناف في عودة الأمة إلى التاريخ العالمي عودةً تخرجها من كونها موضوعا منفعلاً، وهو المكان الذي تردّت إليه وترجعها إلى الذات الفاعلة فيه وإن في شكل مقاومة ليست فيها صاحبة اليد العليا لكنها تتعالى بتدرج واثق لاستتمام الفاعلية؟
هذا السؤال شديد التعقيد بما يحمله من “أسس” لا يعتبرها الجميع من المسلمات المستغنية عن الدليل وهذه الأسس التي طرحها السؤال هي:
- ثورتان؟
- بدايتان؟
- عودة أمة للفعل التاريخي
- خروج الأمة منه للانفعال
- وأخيرا تعالٍ متدرج لتحقيق هذا السير نحو الفاعلية التاريخية.
وعدم الإجماع على هذه الأسس هو التشخيص الذي لا أنكره لذلك اعتبرُها فرضيات عمل وليست مسلمات، وسأبدأ بترتيب فرضياتي من الوسط، أي من: 3- “عودة أمة للفعل التاريخي” وهي الفرضية المتعلقة بما يجري حالياً وقبلها فرضيتان 2- “بدايتان” و1- ‘ثورتان”. وبعدها فرضيتان كذلك: 4- “خروج من الفاعلية التاريخية” و 5- تعال متدرج لتحقيق السير نحو الفاعلية. والسؤال هو لماذا جعلتُ الوسطى مناط الإشكال كلّه
الفرضية الثالثة هي إذن مناط الإشكال وهي موضوع الخلاف الأساسي اليوم بين القوى المتصارعة في الإقليم وفي كل دار الإسلام. وهي مناطه بحدودها الثلاثة وبعلاقة حدّها الأوسط بما قبله وبما بعده. فالحدّ الأوسط هو “أمة”. والخلاف هو حول وجودها في الحاضر وقد يمتد إلى ماضيها فضلاً عن مستقبلها.
فأغلب من يعاديني من كاريكاتور الحداثة علّته أني أؤمن بوجود الأمّة في الحاضر وبأنّ وجودها الآن أكثر كثافة مما كان في الماضي وحتى في عصور الإسلام الزاهية ومن ثم فمستقبلها سيكون حتما أفضل من ماضيها في المجالين اللذين نسبتُ إليهما الثورتين والبداتين. ومن هنا تفاؤلي بالمفهومين الأخيرين، وقصدي بالمفهومين الاخيرين: مفهوم الخروج من الفاعلية التاريخية المؤقت ومفهوم التعالي المتدرج لتحقيق السير نحو الفاعلية من جديد، وبهذا المعنى يمكن القول إني أعتبر كلّ ما جرى في التاريخ الإسلامي يحوي من الإيجابيات ما يجعلني واثقاً من تحليلي. فما لم يقتل الأمة خلال هذا الفقدان هو شرط الاستئناف، ولا بد لفهم هذه الفرضيات التي هي عندي (حقائق) أن أبدأ فأُذكّر بنظرية التاريخ الإنساني ذي الأبعاد الخمسة والتي يبقى الحاضر دائما لبّها وقلبها بالتفاتتيه المضاعفتين لما قبله ولما بعده.
الحاضر في كل تاريخ يحيط ببعدي الماضي الذي أنتجاه وببعدي المستقبل اللدين ينتجان عنه في الوصل بين البعدين المتقدمين عليه والبعدين المتأخرين عنه. فالحاضر ليس وسيطا بين الماضي والمستقبل إلا في التاريخ الطبيعي. أما في التاريخ الإنساني فهو محيطٌ بما يبدو محيطاً به دائما لأنه منظوره إليه (أي أنه يسور الوقائع التي تحيط بها ويحيط بها بدوره).
فلكل حاضر ماضيان (أحداث الماضي وأحاديث الماضي) التي تترجمها فتنقلها من الأفعال إلى الأقوال، ولكل حاضر مستقبلان (حديث المستقبل وأحداثه) التي تترجمها فتنقلها من الأقوال إلى الأفعال. فيكون الحاضر هو اللحظة التي تتمازج فيها أحداث الموجود وأحداث المنشود في أحاديثهما حول الموجود والمنشود.
الفرضية الوسطى هي المناط لأنها عين هذه البؤرة الحاضرة التي تغلي بهذا التوالج والتشاجن بين الأحداث بصنفيها الموجود والمنشود وبين الأحاديث حول الموجود وحول المنشود فيكون الاختلاف المؤثر هو ما يدور في الأحاديث في الموجود والمنشود بتقديم وتأخير بين الوضعين الوجوديين في التاريخ.
ولأن الأمم لا تُعرّف بالإضافة إلى ذاتها فحسب بل بالإضافة إلى كل ما يدور حولها فيما يتعلق بما بين البشر من تبادل وتواصل سلميين كانا أو حربيين، فإن هذه البنية التاريخية المُخمّسة هي بدورها تتضاعف فتصبح علاقة بين مخمسين على الأقل، أعني بين هذه عند الأمة ونفسها عند أمة من حجمها تنافسها.
وهذا المبدأ عام وهو يصح في كل تعريف لأي شيء، فلا بد من مقابلةً بين تعريف الشيء بمقوماته الذاتية الداخلية وبما يُنفى عنه ليمتاز عن غيره بما له جمعاً وبما عليه منعاً. فيكون تعريف المنافس لأمّة الإسلام في بُعد (إنهائها الاحتلال الفارسي والبيزنطي) هو الأمة المسيحية في أوروبا.
ولا أعتبر المغول منافسين تاريخيين حتى وإن نافسوا الأمة لفترة قصيرة لأن الأمة في النهاية استوعبتهم فصاروا منها. والأمة الوحيدة التي صمدت في المنافسة إلى أن زالت وأصبحت شعوبا استعمارية كلٌّ بمفرده، وخاصة بعد نجاحها في حرب الاسترداد هي “الوحدة” التي تعرِّف نفسها بالمقابل معنا أي أوروبا.
ولأني أرفض المنطق الجدلي ولا أعتبر أن التنافس بين حضارة الإسلام وحضارة أوروبا يُمكن أن يًحسم بقضاء إحداهما على الأخرى
- لأن ذلك فشل تاريخيا،
- ولأن الحضارتين لهما نفس المقومات فلسفيا ودينيا
- ولعجزهما عن ذلك في المنظور
- ولأنهما في نفس الاستضعاف الدولي
- ولأن نتيجة ما سبق تعني أن مستقبلهما في تحالفهما
استعملتُ الأساس الميتافيزيقي الذي يقتضيه مفهوم الحدّ الجامع المانع في التعريف ما قد يجعل الكثير يظنني أقبل بالتسالب بين الهويات الحضارية مثل التسالب بين حدودها المنطقية. لكن ذلك غير صحيح لأن التسالب في هذه الحالة يقع بين أسلوبين في نفس الحضارة أو على الأقل في مقوميها الفلسفي والديني، فلو نحيت من حضارة الغرب المقوم الفلسفي اليوناني وما تلاه والمقوم الديني وما تلاه خلال تطورهما في الاقليم لما بقي شيء عدى وحشية الجرمان وغيرهم من بدو شمال أوروبا الذين غزوها. ونفس الأمر يقال عن حضارتنا لو نحيتهما لبقي خاصة بداوة العرب والترك والكرد والأمازيغ وغيرهم من أمثالهم.
صحيح أن شيئا ما تلا هذين المقومين الديني والفلسفي في كلتا الحضارتين فصارت أوروبا صاعدة في السيطرة على العالم وصار المسلمون نازلين في الخضوع لأوروبا. إلا أن هذا لم ينهي المواجهة، وهذه هي المرحلة الرابعة في المفروضات القابلة للتحديد الدقيق بمجرد الكلام على وضع الخلافة العثمانية.
فالمسلمون الذين خسروا المنافسة في الغرب الإسلامي عامة وخاصة لما أكملت أوروبا إخراجهم من الأندلس في حرب الاسترداد، بدوا وكأنهم ربحوها في الشرق الإسلامي إذ استطاعوا غزو البلقان وحافظوا على القوة العسكرية إلى أن نجحت أوروبا في الثورة العلمية والصناعية التي حسمت التنافس، لكن من حظ الأمة الإسلامية أن أوروبا لم تحسم نهائيا الأمر مع الدولة العثمانية إلا في اللحظة التي بدأت أوروبا نفسها تترنح وتفقد سلطانها ع العالم، ذلك أن ما حصل في الحرب العالمية الأولى هو أن أوروبا بدأت تفقد السلطان ووصلت إلى الإنهاك الذي اكتمل في الحرب العالمية الثانية فأفقدتها مستعمراتها.
وإذا أضفنا أن الثورة العلمية والتقنية لم تعد حكراً على أوروبا لأنها صارت في متناول أي أمّة انتظم أمرها، علمنا طبيعة المعركة الثانية التي خسرتها أوروبا ولن تستطيع استردادها أبداً، رغم أنها تعتمد على أداتين في محاولة ذلك لن يفلحا في إرجاع قوتها وامبراطورياتها: 1-الاستعمار غير المباشر 2-والأذرع الأربعة.
ولا أحتاج لتعريف الاستعمار غير المباشر فهو معلوم وهو يعتمد على العملاء الذين نصبوهم على العرب بعد الحرب العالمية الأولى والذين لم يعودوا تابعين لأوروبا بل صاروا تابعين لأمريكا التي ورثت مستعمرات أوروبا وساهمت فيما سُمي تحريراً من استعمار أوروبا وهو استبدال له باستعمار أمريكا.
لكن الأذرع الأربعة هي التي تحتاج إلى التعريف يمكن تلخيصه بالآتي:
فرنسا اعتمدت على مسيحيي الشرق وبريطانيا جاءت بيهود أوروبا وهما الذراعان اللذان يمثلان قاعدتيهما بعد فقدان سلطانهما وامبراطوريتهما وخاصة منذ سايكس بيكو وتأسيس دولة إسرائيل. والذراع الفرنسية أقدم لأنها تتعلق بما كان يسمى المسألة الشرقية، ويمكن اعتبار هذين الذراعين مواصلة لاستراتيجية الصليبين وإن بشكل حديث بسبب عجز فرنسا وانجلترا على خوض ما يجانسهما، خاصة وهما قد أصبحتا تابعتين لأمريكا خوفا من الاتحاد السوفياتي. وقد يخطر ببالهما استئناف الدور بعد زوال السوفيات وسعي أمريكا للانطواء. لكن ليس لهما القدرة على ذلك.
أما الذراعان الآخران فهما ناتجان عن استعمال محركين كانا ولا يزالا هدف الاستشراق: إحياء الطائفية وأحياء العرقية في دار الإسلام، والعرقية والطائفية منتشرتان في شعوب الأمة كلّها وهي من أهم أدوات الاختراق ويمكن حاليا حصرها في: 1-استعمال إيران للطائفية 2-أستعمال اسرائيل للعرقية.
لماذا ميزت الذراعين الثانيتين عن الذراعين الأوليين؟ التمييز ضروري لأن إيران وإسرائيل دولتان. والطائفية والعرقية أداتان من أدواتهما وليستا دولاً. فالعرقية في المشرق مثالها علمانيو الكرد وفي المغرب علمانيو الأمازيغ. والطائفية عامة ولا حاجة لأمثلة
الفصل الثاني:
تكلمتُ على ثورتين وعلى معركتين قبل القلب الذي وسطته. وتكلمت على الوضعيتين بعده أعني فقدان الفاعلية والتدرج في استردادها. وسأبدأ بيان القصد بالثورتين وبالمعركتين. فأما الثورتان فأولاهما ثورة التحرير من العلّة الخارجية ولها رمز غاية، وثانيهما ثورة التحرر من العلة الداخلية ولها رمز غاية.
وسأذكر الرمزين الغاية قبل الكلام على المعركتين، فأمّا رمز التحرير الغاية فهو حرب التحرير الجزائرية وبها دخلت الأمة التاريخ الحديث الفعلي إذ إن الجزائر كانت علامة المحاولات الاستعمارية لإخراج الإسلام في المغرب الإسلامي من التاريخ وكاد الأمر يتم لولا حيوية الإسلام في قلب الجزائريين، أمّا رمز التحرر الغاية فهو حرب التحرر السورية وبها دخلت الامة التاريخ الحديث الفعلي إذ إن حرب التحرر الجارية حالياً في سوريا هي علامة محاولات الاستعمار غير المباشر-في الجزائر كان المباشر- لإخراج الإسلام في المشرق الإسلامي من التاريخ وكاد الأمر يتم لولا حيوية الإسلام في قلب السوريين.
وإذا كانت المعركة في الجزائر لم تعلن بوصفها حرباً على الإسلام ولم تستعمل فنيات التشويه واختراق حركات المقاومة بكيانات وظيفتها تدنيس رموز الإسلام كلّه، فإن ذلك هو أهم سلاح لجأ إليه أعداء الأمة وخاصة الأذرع الاربعة من الداخل والخارج في الحرب السورية.
وحتى نفهم أهمية هذين الرمزين (الجزائر في حرب التحرير وسوريا في حرب التحرر) فإن إعادة النظر في دلالة الربيع العربي للوصل بين التحرير والتحرر يقتضي أن نشير إلى أن ما بين استعمار الجزائر وسوريا المباشر مرّ قرن، وما بين ثورة التحرر مرّ عقدان لأن ثورة التحرر بدأت في الجزائر أيضاً.
في الظاهر حقيقة الربيع لم تتبين إلا في سوريا وهي التي تثبت أن ما حصل في الجزائر كان البداية من حيث الأهداف والأساليب التي توخاها الاستعمار غير المباشر في سعيه للقضاء على ثورة التحرر، وما يجري في سوريا ومصر وليبيا واليمن وحتى تونس كلّه تابع من حيث الغاية والأسلوب لما حدث في الجزائر.
وما بدأ في تونس ليس الربيع العربي بل هو الوسط بين المعركتين اللتين نتجتا عن غاية الثورتين ونموذجهما: ثورة التحرير التي كانت غايتها في الجزائر وثورة التحرر التي ستكون غايتها في سوريا. وإذن فمعركة سوريا لم تنته بعد ولن تنتهي قبل أن تحقق ما يتحقق الجمع بين الثورتين في دار الإسلام كلها.
لا أعجب إذا لم يتابع القارئ البحث في الرموز ودلالتها. ذلك أن فكرنا ما يزال بدائيا ولم يول أهمية كبرى لنظام الرموز الذي غالبا ما يسبق بفاعليته نظام المرموزات. ومن يحاول أن يغوص في القصد من هذه الشبكة الرمزية فلينظر فيما يجري في تركيا: أعداء الأمة يخيفهم البناء على قيم الذات.
لذلك فالمعركتان هما: معركة البناء على قيم الذات في الغرب الإسلامي وقلبه الجزائر بدءا بالتحرير وختما بالتحرر، ومعركة البناء على قيم الذات في الشرق الإسلامي وقلبه سوريا بدءا بالتحرر وختما بالتحرير، فيتبين من ثَمَّ إذا جمعنا الجانحين أنه لا تحرير من دون تحرر ولا تحرر من دون تحرير.
الجناح الذي ترمز إليه الجزائر يبين أن التحرير لن يتم فعلاً من دون ربح معركة التحرر، والجناح الذي تمثله سوريا يبين أن التحرر لن يتم فعلا من دون ربح معركة التحرير. الجزائر بحاجة للجمع بين التحرير والتحرر وسوريا بحاجة للجمع بين التحرر والتحرير. وكلتاهما إقليمية ودولية بسبب الإسلام. ونفس الثورة المضادة التي نراها الآن تحارب ثورة الشعوب في الإقليم حاربت ثورة الجزائر في تسعينات القرن الماضي من أجل التحرر. ذلك أن فرنسا والثورة المضادة العربية يعلمان أن نجاح الثورة في الجزائر تعني خروج المغرب كله وربما أفريقيا من ربقة الاستعمار غير المباشر وسقوط أنظمته فيها. ونفس الأمر في سوريا اليوم، نجاح الثورة فيها تعني سقوط كل الانظمة العميلة التي تدين للاستعمار غير المباشر ببقائها وما يترتب عليه من استبداد وفساد، لكن ما حدث في الجزائر عندما استفردوا بها إذ كانت وحدها في بداية الثورة لن يتكرر، لأن الثورة اليوم في أهم أقطار الإقليم بكل معاني الأهمية
والمعركة صارت واضحة المطالب: الجمع بين التحرير والتحرر والوعي بأن أقل شروطها أن تكون في الإقليم كله وهي بداية الوحدة النضالية التي من شروط نجاحها عدم تكرار خطأ معركة التحرير التي لم تنجح إلا في الظاهر، فلا بد في التحرير والتحرر من تجاوز القطرية والتأسيس على قيم الذات.
وقيم الذات من حيث هي الأساس لا تكون أساساً متيناً إذا لم تكن قيماً كونية تجمع بين الكوني من حضارتنا والكوني من الحضارة التي سبقتنا بما حققته خلال غفوتنا، أعني بتجاور شروط القوة الاقتصادية والثقافية والعسكرية التي تحقق شروط السيادة والرعاية والحماية، وهذه تقتضي حجما لا تقدر عليه القطرية الصغيرة، وينبغي قبل المواصلة أن أشرح في شكل اعتذار علّة تقديم الجزائر في الغرب الإسلامي وسوريا في الشرق الإسلامي بالقياس إلى المغرب وتونس في الأولى وإلى العراق ومصر في الثانية وما يتضمنه الكلام من تقديم الإقليم على بقية دار الإسلام.
ولهذا سبب ضمني له علتان: أولاً لأن هذا المركز هو أصل البداية، وثانياً لأن أعداء الاستئناف من الداخل والخارج هم الذين ركزوا حروبهم وحملاتهم عليه لعلمهم أنه سيكون مركز الغاية في المستقبل، بمعنى أن استتباع دار الإسلام يسير إذا استكمل الاستحواذ على هذا المركز.
فباكستان استطاعت تجاوز عتبة القدرة على الردع إذ تمكنت من السلاح النووي والملاويين استطاعوا تجاوز عتبة الاقلاع الاقتصادي والتقني وبقية المسلمين في افريقيا وآسيا تم إخضاعهم وتغيير ثقافاتهم وجعلهم بالتدريج يفقدون دورهم في الاستئناف وخاصة بسبب غباء العرب في علاقتهم بهم، وحتى الجمهوريات التي كانت تحت استعمار الاتحاد السوفياتي فهي وإن بدأت تعود فإنها تبقى رهن ما يعتمل في تركيا وإيران وافغانستان. وهؤلاء يمكن اعتبارهم من ذوي الصلة المباشر بهذا المركز الذي يمثل البداية والذي يعتبر حاليا الهدف الأول للحرب على الاستئناف ومحاولة تطويعه واستتباعه.
وقدمتُ الجزائر على تونس والمغرب رغم أنهما أكثر عراقة حضارية منها لعلّة مضاعفة: أولاً هي التي اُحتلت قبلهما. وثانياً لأن حرب التحرير وحرب التحرر الدالتين على دخول العصر الحديث المقاوم باسم الإسلام الثوري بحق بدأا فيها ولم يبدأا في تونس والمغرب رغم أنهما يبدوان قد “تحررا” قبلها بحل جذر التبعية، وينبغي أن أضيف أن الجزائر بقيت تقاوم مع الخلافة العثمانية إلى أن تمّ احتلالها بخلاف تونس والمغرب لأنهما بنحو ما يبدوان قد تخليا عن المقاومة ووصلا إلى ما يشبه المهادنة مع حرب الاسترداد، ما جعل المغرب يتخلى على سبتة ومليلة وتونس يستعمرها الإسبان لمدة طويلة وصلت قرناً إلا ربع.
ونأتي إلى تقديم سوريا على العراق ومصر فرغم أن هذين يبدوان أثقل وزنا، لكن الحقيقة هي بخلاف ذلك، فحروب الأعداء الماضية حسمت فيها -الصليبية والمغولية حتى وإن كانت بمساهمة مصر والعراق-والحرب على الخلافة الأخيرة جرت فيها بالمسألة الشرقية والقومية وفيها بقايا الصليبية والباطنية، وليس صدفة أن معركة أعدى عدوين للإسلام جعلت سوريا مركزا لتنافسهما على استعادة الاقليم الذي يعتبرونه من امبراطوريتهما المتقدمة على الإسلام، امبراطورية داود وامبراطورية كسرى ومن ورائهما من لهما من المطمع أعني روسيا نيابة عن بيزنطة القديمة وأمريكا نيابة عن امبراطورية روما الحديثة.
وليس صدفة كذلك أن تقاسمت الدولتان اللتان قادتا الحروب الصليبية (فرنسا وانجلترا) الشام بمعناه القديم فاخذتا ما كان دائما غاية الصليبيين طيلة القرون الوسطى والاستعماريين بعدها إلى اليوم لعلمهم أن الشام هي المؤسِّسة الفعلية لإمبراطورية الإسلام بالدولة الأموية. التي انطلقت من الجزيرة العربية.
لم يبق اليوم إلا أن تتواصل ثورة التحرر التي ستصبح ثورة التحرير بعد أن استُعمرت سوريا من جديد وثورة التحرير التي ستصبح ثورة التحرر بعد أن استعبدت الجزائر من جديد. لا بد من الخروج من هذين النكوصين في سوريا وفي الجزائر وبهذين الجناحين سيتحرر تحريراً وتحرراً قلب دار الإسلام ونستأنف دورنا.
الفصل الثالث:
تبين إذن أن دور الجزائر في الغرب الإسلامي وسوريا في الشرق الإسلامي ليس وليد الصدفة سواء نظرنا إليه من منطلق التاريخ الذاتي للأمة أو من منطلق تاريخ الأمة المنافِسة في الإقليم في العصر الوسيط والعصر الحديث، ومن ثم فإن ما يحدث قابل للتأويل الذي يُمكّن من استشراف المستقبل القريب والبعيد على حد سواء، فالجزائر التي خاضت أكبر حرب تحرير عرفتها الأمة في تاريخها الحديث تبين لشعبها منذ عشرية القرن الماضي أنها خُدعت ولم تتحرر لأنها وجدت نفسها أمام امتناع التحرر من الاستبداد والفساد الحائلين دون البناء المستقل لتحقيق ثمرات ثورتها التحريرية. وصارت نموذجا لضرب كل مسعى.
وهذه الضربة التي تبدو قد توقفت في الجزائر وكأنها نجحت في إخماد محاولة استكمال التحرير بالتحرر بلغت الآن ذروتها في سوريا التي أثبتت أن الضربة لم تكن قاضية كما توهموا لأن الربيع الذي استؤنف في تونس دون تحديد هويته في علاقة مباشرة بالإسلام تعينت فعلاً في سوريا بهذه الهوية الصريحة.
ومما يزيد الأمر وضوحا هو ما بين سوريا وتركيا من مصير تبين الآن أنه مصير مشترك: فالوصل الذي كان القطع معه بداية سايكس بيكو وبداية الخيانة العربية لوحدة الأمة الرمزية في الخلافة الأخيرة خلال الحرب العالمية الأولى والذي أنشأ تقسيم الشام بين فرنسا وانجلترا وأنشأ إسرائيل يُستأنف الآن، ذلك أنّ ما حققه أعداء الإسلام بالخيانة العربية يريدون استكماله بخيانة من جنسها، يوظفون لها كل علمانيّ الإقليم من كرد وأمازيغ وأتراك وعرب وفرس لمنع الاستئناف مهما كلفهم ذلك، مستعينين بالأذرع الأربعة التي ذكرتها في البداية وأنظمة الثورة المضادة وبسند واضح وصريح من روسيا وأمريكا.
ومن العلامات التي لا تكذب اثنتان:
- القضاء على المعالم الرمزية العمرانية في ما كان بين الشام والعراق من مدن ذات دلالة رمزية على مقاومة الصليبيين والمغول أعني الموصل وحلب.
- محاولة القضاء على معلم بطولي يصل بينهما أعني صلاح الدين الأيوبي والحملة الدنيئة عليه من أحد سفهاء مصر، وآخر أشد سفهاً في الشام
فما يجري في سوريا حاليا وخاصة بمناسبة جلاء الجيش الامريكي منها لا يختلف في شيء عما جرى لضرب الخلافة في الحرب العالمية الأولى، المستهدف الحقيقي هو تركيا. فالمعلوم أن حرب ماركسيي الأكراد عليها ليست جديدة وهي لا تخيف تركيا، المشكل هو أنّ تفتيت سوريا بداية لتفتيت تركيا.
وما يجري أكبر دليل على غباء القيادات العربية عامة والسورية والعراقية خاصة. ذلك أن المستهدف في الغاية هو تركيا ولكن لعلها هذه المرة مستعدة لتصد الاستهداف بخلافهم هم، فتفتيت سوريا والعراق بداية والسعودية ومصر بعد ذلك هو غاية ما يحلم به الذراعان (إيران وإسرائيل) لكن تركيا هذه المرة عصية بإذن الله، فهي لم تعد الرجل المريض بل هي تعافت ولها من القوتين المادية المعنوية ما سيحميها في كل الظروف، لأنها حتى لما كانت رجلا مريضاً كذّبت هيجل (الباب الرابع من فلسفة التاريخ) فلم تخرج من أوروبا ولم تفقد ما كانت روسيا القيصرية تريد استرداده لكونه كان تابعاً لبيزنطة وخاصة القسطنطينية.
وعندما تسمع نعجة الشام -ويسمونه أسدا-وعبد الملالي-ويسمونه سيدا-يتكلم عن النصر في الحرب لا تكاد تعجب مما بلغ إليه الحمق: بلد تحتله جيوش أربعة (إيران وإسرائيل وروسيا وأمريكا) ولا يعتبرها عدواً ويعتبر الجيش الذي يحاول حماية بلده (تركيا) هو العدو، ذلك أن هذا الجيش هو الذي يدافع ضد الهجمة الحقيقية على الأمة. ولأن الأعداء مدركون لهذه الحقيقة كانت الاستراتيجية التي توخوها هي بالذات تشويه هذا المحرك العميق لما يجري خاصة لما تكاثرت تأويلات دوافعه، فهم يعلمون أن ما حدث منذ قرنين من العودة إلى التاريخ هو الذي بلغ الآن الوعي التام بطبيعة المهمة، استعادة شروط الاستئناف التي هي عين وحدة الأحياز، وأبلغ الأدلة على ذلك كاريكاتور الحداثة العربية. فهم مجمعون على اعتبار التفتيت أمراً نهائيا. لا يؤمنون بوحدة الجغرافيا ولا بوحدة التاريخ ولا بكون أثر التاريخ في الجغرافيا ضامنا لشروط التنمية المادية (الثروة) وبكون أثر الجغرافيا في التاريخ ضامنا للتنمية الثقافية (التراث) ولا بوحدة المرجعية، فهم حرب على وحدة الجغرافيا بما يسمونه دولة وطنية وهي في الحقيقة محمية استعمارية لا يمكن أن تتقدم مادياً وحرب على وحدة التاريخ بما يسمونه حضاراتهم المتقدمة على الإسلام (أي بالميت من التاريخ) الذي لا يمكن أن يتقدم روحياً على وحدة المرجعية بالتبعية الروحية والحضارية بل سيبقى بدون كرامة أو سيادة.
وليس هدفي من هذه المحاولة التعسف على التاريخ بل البحث في أعماقه عما يبرز منطقه الخفي الذي يجعل الكثير من الناس يتصورون أن ما يجري كلّه محض صدف ناتج عن إرادات بشرية بلا نظام يمكن أن يعلّل كونها على ما هي عليه، ما يجعل الأمة تبقى دائما في وضع من يرد الفعل دون استراتيجية فاعلة.
هدفي هو اكتشاف منطق ما يجري ليكون منطلقي لوضع منطق ما يجعله يجري في الاتجاه الذي نريده لاستئناف دور الامة. وأوّل نتيجة أنتهي إليها مضاعفة هي أن: سوريا بدأت حرب التحرر فوجدت أنها لم تخض حقا حرب التحرير وهي الحرب التي عليها أن تشرع فيها الآن جمعا بين الحربين تحريرا وتحررا. والجزائر التي خاضت حرب التحرير اكتشفت أنه عليها أن تخوض حرب التحرر لأن إخماد هذه في تسعينات القرن الماضي دلّ على أمرين أن حرب التحرير لم تؤتِ أكلها وإلا لاستغنى الشعب الجزائري عن حرب التحرر لأنها كانت ضمنها، وفشله في حرب التحرر يعني أنه عليه أن يخوضهما معاً مثله مثل سوريا حالياً.
وما يعنيني من هذا الوصل بين الرمزين رمز الغرب الإسلامي (الجزائر) ورمز الشرق الإسلامي (سوريا) هو أن تستوحي الثانية من الأولى استراتيجية حرب التحرير والأولى من الثانية استراتيجية حرب التحرر بعد تعديلها باستراتيجية حرب التحرير الجزائرية. فما أفسدهما هو التفتت الموروث عن فصائل فلسطين، وبصورة أدق دور الأنظمة العربية في تفتيت حركات المقاومة الفلسطينية التي صارت متاجر، وتحولت إلى جماعاتٍ بإمرة أمراء حرب يتنافسون بالعنتريات والحركات التي اغلبها مجانية للتظاهر بالبطولات الزائفة، وخاصة منذ أن تعلموا حماقة ما يسمونه الصفوة منهم حزب الشيطان التابع للملالي.
فأنا شخصيا شاركت في شبابي يجمع التبرعات في أعياد الاضحى للثورة الجزائرية التي كان أبطالها لا يركبون المرسيدس بل الخيل والحمير ولا يشربون الويسكي ولا يترددون على المقاهي والبارات، وخاصة منذ أن أصبح لهم علاقات بخباء الملالي ومتع الليالي في جنوب لبنان والمقاومة الحكر على الباطنية.
فإذا تعلمت الثورة في سوريا الجامعة بين التحرير والتحرر من ثورة التحرير الجزائرية فن الحرب الشعبية التي هي شعبية بحق بعقيدة إسلامية مستنيرة بحق وتعلمت الثورة في الجزائر الجامعة بين التحرر والتحرير من ثورة التحرر السورية فن المطالب التحررية التي هي تحررية بحق حصلت شروط النجاح.
لذلك فلا بد لثوار سوريا من أن يصبح تاريخ حرب التحرير الجزائرية أول درس يتلقونه في معنى المقاومة الشعبية التي هي ليست حرب جيش نظامي ضد جيش نظامي كما حصل في السنوات السبع الماضية بل هي حرب شعبية يكون الشعب كله فيها جنود الجهاد الخالص لوجه الله بكل ما لديهم وليس بالسلاح وحده، ولا يمكن لهذه الحرب الشعبية أن تنجح إذا لم تتحد وتتحرر من العنتريات وتميز بين شروط حرب المطاولة التي تربح بها الشعوب وحرب المناجزة التي تستعملها الأنظمة وجيوشها النظامية لحسم المعارك بأسرع ما يمكن فيكون السرّ في خسرانها هو إطالة الحرب وتوسيع مسرحها في كل مكان من الهلال.
فالثورة المضادة أقليمية وتحريكها وتمويلها عالميان ومن ثم فلا يمكن أن تبقى الثورة محلية. ينبغي أن تعمّ كل الإقليم من موريتانيا إلى كل الخليج والهلال مرورا بالمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وفلسطين والشام والعراق ونزولا إلى اليمن والقرن الافريقي. ذلك ما لابدّ منه للاستئناف الحاسم.
وسأختم هذا الفصل بمبدأ استراتيجي حاسم: وهو التعاكس في سر القوة. فلا تغلب أكبر قوة أصغر قوة. الدبابة بالدراجة النارية والطائرة الحربية بالطائرة الورقية رمزين للتقابل في القوة. والجيش الجرار بالمقاومين الموزعين على المكان. القويّ مادياً ينتظر تبئير الضرب والقوي روحيا الانتشار
القوي مادياً يصرف مليار لقتل مقاوم والقوي روحياً يصرف دينار لقتل جندي من جيشه. صاروخ أمريكي يساوي مليون رصاصة للمقاومة. وبالمليون تصبح المقاومة أقوى. أما الخطأ الذي وقعت فيه الثورة السورية فهو غباء من تجاهل شروط الحرب الشعبية فضلا عن التفتيت بأمراء الحرب.
والآن يمكن أن تبدأ حرب التحرير في سوريا باستراتيجية حرب التحرير الجزائرية. وسيكون سندها تركيا لأن تركيا تتعرض لتهديد يجانس ويشابه ما تعرضت له سوريا. ذلك أن العملية الحالية هي نفس العملية التي حصلت في الحرب العالمية الأولى ولكن بترتيب معكوس: أسقطوا تركيا وفتتوا جغرافيتها، الآن عكسوا الأمر، التفتيت ثم الإسقاط، يريدون تفتيت ما حول تركيا ليكون نموذجا لتفتيتها. والغريب أن القيادات العربية بلغ بها الحمق أنها تشارك في هذا التفتيت ولا تدري أنها ستكون أولى ضحاياه، فغبي سوريا يحارب تركيا بدل إيران وإسرائيل وروسيا وأمريكا الذين هم من سيجعل سوريا أكثر من خمس محميات نراها الآن تتشكل.
الفصل الرابع:
الحرب تجري بين قوتين تمثلان إرادة شعبين أو أكثر إذ يمكن أن تمثلا مجموعتين كلتاهما يمكن أن تكون جماعة واحدة أو حلفا بين جماعات. وهذا يعني أن كل حرب لها مستويان سواء كانت بين دولتين أو بين دولة محتلة وشعب محتل:
- مباشر بين القوتين المتقابلتين في ميدان القتال وهو محل العدوان.
- وغير مباشر بين شعبين أو مجموعتين من الشعوب المتحالفة تمثلها تلكما القوتين.
وظيفة الاسترايتيجيا في الحرب الشعبية هي الفصل بين المستويين والتعامل مع المستوى الثاني بما يفصله عن المستوى الأول، لأن المطاولة تستهدف معنويات العدو أو قوته الروحية التي يمثلها شعبه وليس قوته المادية التي يمثلها جيشه. فإذا فقد جيشه سند شعبه خسر الحرب مهما استعمل من قوة.
ولذلك فالحرب الشعبية يعترضها مشكلان:
- كيف التوفيق بين المستويين وهذا أهم وسائله التوفيق بين نوعي الحرب العنيفة واللطيفة؟
- كيف يوفق بين ضعفه وقوة خصمه أو ما السر في المطاولة التي تنتصر على المناجزة (مفهومات خلدونية)؟ وقد كتبت الكثير في خطابي لمقاومة الغزو الأمريكي في العراق لمّا كنت في ماليزيا.
وكان تركيزي حينها متعلقا بالمعضلة الأولى. وقد بدأت أكتب في ذلك عندما ابتدع بعض الحمقى في المقاومة العراقية ما سموه “توب تان” وعلقوا بعض الجنود الأمريكان في جسور العراق بهدف التخويف وإرهاب العدو. فكانت حسب رأيي أهم شيء استفاد منه بوش الحقير ليحصل على أجماع شعبه حول حربه، ونفس هذا الفعل قامت به داعش وهو ما جعلني أتيقن بأنها ظاهرة مخابراتية لصالح الأعداء وليست كما يزعمون حركة تريد استعادة الخلافة، فلا أحد خدم الأعداء أكثر من داعش إذ صارت تبرز بشاعات أفعالها والمعلوم أن الجيوش كلّها تعلم البشاعات لكنها لا تنشرها لئلا تخسر التظاهر بالخلقية في دعايتها.
فليس من شك أنه قلما تحترم الجيوش أخلاق الفروسية في الحروب، لكنه كذلك ليس من شكٍّ في أنّها تتظاهر باحترامها في دعايتها حتى لو لم تكن بحاجة لذلك مثل حاجة المقاومة الشعبية للفصل بين جيش العدو وشعبه، فالمقاومة الشعبية بحاجة أكيدة لذلك ومن ثم فعليها العمل بأخلاق الفروسية فعلاً وليس دعاية فحسب.
صحيح أن الثورة الجزائرية لم تعمل بهذا المبدأ دائماً، لكن في ذلك الوقت كان العالم فيه على الأقل قطب يتظاهر أنه مع الشعوب الساعية إلى التحرر بل إن القطبين كلاهما كانا يتنافسان على التظاهر بذلك، إذ كانت أمريكا كذلك، ولكن لغاية في نفس يعقوب كانت المساعدة لحركات التحرر من الاستعمار الأوروبي.
حتى هذا النفاق لم يعد موجوداً لأن كلا القطبين أو القطب الأقوى وبقية القطب الذي انهار، ومعهما الذراعان وحتى أوهام أوروبا بأن لها دوراً في السياسة الدولية ومعهم الثورة المضادة العربية، كل هؤلاء صاروا متحالفين ضد ثورة استئناف المسلمين دورهم في التاريخ بالتحرر داخلياً والتحرير خارجياً.
لذلك فالتمييز بين المستويين في الحرب العنيفة مع الجيوش، واللطيفة مع شعوبهم، من أهم أسرار الحرب الشعبية الناجحة وحتى الحرب العنيفة مع الجيوش ينبغي ألا تكون ظاهرة وإذا حصلت بانفلات فينبغي معاقبة المنفلت والمبالغة في اظهار ذلك، لأنه من أهم عوامل الدعاية كما في آية التعامل مع الأسرى (تسمعه كلام الله ثم توصله إلى أهله)، كل أسير من جيش العدو إذا عومل بآية التعامل مع الأسرى القرآنية يصبح بمجرد تسريحه متعاطفا مع الحرب الشعبية ولسان دفاع عنها أو على الأقل أقل حماسة للحرب عليها، وهي من فنيات الحرب النفسية الموجبة وليس السالبة أعني الترغيب بدل الترهيب فضلاً عن كونها من أخلاق الفروسية وقوانين الحرب التي وضعها الإسلام في الفتوحات.
ويزداد ذلك إلحاحا إذا كانت الحرب أهلية كالحال في كل حرب شعبية ضد عدو خارجي يحمي عدواً داخليا. ذلك أن الحرب في الجزائر في خمسينات القرن الماضي ومثلها في سوريا حاليا ليست مع العدو الخارجي فحسب بل هي كذلك مع عملائه وهم من أبناء جلدتنا وسنعيش معهم بعد نهاية الحرب إذ هم ليسوا عدداً قليلاً.
ولا أنكر أن التوفيق بين المستويين في الحرب ليس يسيراً، لكنه ضروري في الحرب الشعبية ذلك أن النصر في المستوى الأول أي الحربي الخالص ضد الجيوش النظامية شبه مستحيل ولا أعلم في التاريخ مقاومة شعبية ربحت الحرب عسكرياً بما في ذلك فيتنام والجزائر بخلاف أكاذيب الدعاية.
فلو لم يكن الشعب الأمريكي قد يئس من النصر وأجبر حكومته على الخروج لكان بوسع قوة أمريكا أن تواصل الحرب إلى غير غاية. ونفس الأمر في الشعب الفرنسي. ذلك أن الدول لا تحارب من أجل الحرب بل من أجل أهداف ومصالح. فإذا تبين لها أن الخسارة ستكون أكبر تبحث عن حل وسط لإيقاف الحرب، وهنا تكون الحنكة السياسية: هل الحل الوسط يجعل أهداف الثورة قابلة للتحقيق بعدها أم هو كما حصل في كل مقاومات العرب كان حلاً وسطاً مغشوشاً أدى إلى الانتقال من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر ومن ثم جعل الحكام الذين نصبهم الوضع أدهى وأمر مما كان عليه قبل الثورة.
فما حققته فرنسا مثلا في تونس والجزائر والمغرب بعد “استقلال” هذه المحميات يفوق بكثير ما حققته خلال الاستعمار المباشر لأن وجودها المرئي كان عائقاً دون ما حققه وجوده اللامرئي بتوسط عملائها الذي نصبتهم أو اخترقت بهم من كانوا يقودون الثورة كما في الجزائر، وهم الحركيون المندسون في الثورة، وما أريد أن أركز عليه في الثورة أن شرط نجاحها هو أن تتحرر أولاً من القطرية وأن تصبح إقليمية مثل الثورة المضادة التي سبقتها إلى الإقليمية بمقتضى قياداتها العالمية بمعنيين. فهي عالمية:
- لأن للأذرع الأربعة أبعاد دولية لأنها بوصفها أدوات للاستعمار ولذاتها في آن.
- ولأن لها استراتيجيات مندرجة في رؤية لمجريات تنظيم العالم الجديد.
وهي عالمية لأن القوتين المتنافستين بوضوح على احتلال الإقليم من جديد (روسيا وأمريكا) والقوتين المتنافستين بشيء من الخفاء (أوروبا والصين) كلها مهتمة بالسيطرة على الإقليم لما فيه أولاً ولموضعه في الجغرافيا السياسية والاستراتيجية العالمية ووجوده بين الشرق والغرب ممراً واجباً.
فكيف يمكن تحقيق شروط المطاولة في الحرب الشعبية؟ كل حرب يحكمها الحيزان الطبيعيان والحيزان التاريخيان وأصل الأحياز الأربعة. فأما الحيزان الطبيعيان فهما المكان والزمان. وأما الحيزان التاريخيان فهما فعل المكان في الزمان أو التراث وفعل الزمان في المكان أو الثروة. فما رهان الحرب؟
ورهان الحرب مضاعف: فظاهره يبدو حيازة المكان والزمان. لكن باطنه هو حيازة ثمرة تفاعلهما أي الثروة التي في المكان والتراث الذي في الزمان. أو على الأقل إلغاء دورهما كعاملي قوة في يد أصحابهما أو منع المنافسين عليها من القوى الأخرى التي لها نفس الأهداف من حيازتها. وشرط تحقيق ذلك ضرب المرجعية الموحدة للأربعة.
لذلك فاستراتيجية العدو هي تفتيت المكان وجعله محميات يستتبع أصحابها إليه، حتى تكون لهم شرعية تسمية تلك المحميات دولاً، ويبحثون لها عن شرعية تاريخية غير التي كانت توحد المكان. ثم يخلق بينهم حرباً على الثروة (حروب الحدود) وعلى التراث (حروب المرجعية) فيصبح همهم تهديم المرجعية المشتركة.
وبذلك تغرق الأمة في حرب أهلية مضاعفة لا تتوقف: في كل محمية ثم بين المحميات. وبذلك تفهم الصراع بين الجزائر والمغرب وبين دول الخليج وبين العراق وسوريا سابقاً وبين مصر والسعودية فضلاً عن الصراع الطائفي والعرقي وكل ذلك لأن الوحدة الجغرافية والتاريخية والمرجعية استُهدفت فضعفت ولم تعد محصنة.
ومن ثمّ فالعدو لا يعمل قطرياً ومحلياً بل هو يعالج القضية ككل في الإقليم كلّه مكانه وزمانه وشروط ثروته وشروط تراثه وخاصة مرجعيته الموحدة التي هي حصانته الروحية التي تحققت بالتدريج في الأذهان وفي الأعيان، وهو يهدمها بأصحابها فيفتت المكان المؤدي والزمان وينتج الفقر المادي والفقر الروحي.
هذه هي الوضعية الحالية. وهي إذن وحدة عند العدو يسعى للقضاء عليها باستراتيجية تعالجها علاجاً جامعاً، لكنها عند أصحابها لا تعالج بوصفها وحدة ينبغي استعادتها لأنها سر القوة المادية والروحية ومن ثم منطلق الخروج من الفقر المادي ومن الفقر الروحي بإعادة المرجعية الموحدة التي يحاربها العدو.
وبهذا المعنى فالحرب الرمزية أهم بكثير من الحرب المادية. ذلك أن أهم ما يضعف الأمة هو تفتت المرجعية ذاتها وعطالة نخبها الخمسة: (السياسية والمعرفية والاقتصادية والثقافية والرؤيوية) وأهم انقسام يحصل هو ما يحدثه كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث لعدم فهم مقومات قوة الأمم وسرها.
والجهل بسر قوة الأمم هو بالذات ما يجعل هذين الكاريكاتورين -وغالبا ما يكون ذلك منهما عن حسن نية وجهل- يدافعان عن سرّ ضعف الأمم. فالذي يعتبر الأصالة هي محاكاة ماضينا والذي يعتبر الحداثة هي محاكاة ماضي الغرب كلاهما لا يدرك أنهما كليهما يتحدان في كونهما إبداعا مستأنفا دائما في كل حضارة.
الفصل الخامس:
وصلنا إلى غاية هذه المحاولة. فالأحياز الخمسة التي هي سر قوة أي أمة هي ما يستعمله العدو لإضعافها ولمنع شروط الاستئناف لأنها تؤبد التبعية فتجعلها بنيوية ومن ثمّ فكل ما يسمى دولاً عربية ليست في الحقيقة إلا محميات حكامها غفراء وليسوا أمراء مهما انتفخت البطون والإليات والأوداج:
- يفتت الجغرافيا وينصب علـى الفتات عملاء.
- ويُتم الغفراء تفتيت التاريخ لإضفاء شرعية على المحميات.
- والتفتيت الجغرافي يمنع التنمية المادية.
- والتفتيت التاريخي يمنع التنمية العلمية والثقافية.
- ويركز الحرب على المرجعية التي توحد الأحياز الأربعة (الإسلام).
ذلك أن هاتين التنميتين تحتاجان إلى حجم معين. وهذا المنع يعني تأسيس للتبعية الدائمة لأن غياب التنميتين يعني عدم القدرة على الرعاية والحماية الذاتيتين، وهو معنى قولي إن الاقطار العربية مثلا ليست دولاً بل هي محميات بدليل أنّها جميعاً من الماء إلى الماء بحاجة إلى قواعد تحمي أنظمتها. وهي تحميها من بعضها البعض لأنها تجعلهم أعداء وتحميها من شعوبها لأنها بما تؤديه من خدمات لحاميها لا يمكن أن ترضي شعوبها فتصبح مجرد أداة لنهب ثروات شعوبها وتمكين الحامي منها مقابل الحماية ويتفضل عليها بمعونة لا تساوي واحد من المليار مما نهبه فتضطر لتجويع شعبها لتدفع الجزية.
وكان البعض يتصورون أن ذلك من شكاوى بلاد العرب الفقيرة وليس أمراً بنيوياً ينتج عن الاستعمار غير المباشر حتى وصل الأمر إلى بلاد العرب التي تتوهم أنّها غنية أعني بلاد البترول. فسواء كانت مغربية أو خليجية فهي كلها صارت في نفس وضع البلاد التي ليس لها هذه الثورة الزائفة.
لذلك كنت أتمنى نجاح ترومب وفرحت لما نجح: لأنه هو الذي زاد الطين بلّة في هذا المجال، فلم يكتف بالفعل بل صار بالقول يبين أنهم محميات وأن هذه الانظمة من دون حمايته يمكن أن تتساقط كأوراق الخريف، ولذلك اضطرهم لحلبِ شعوبهم حتى يدفعوا الجزية وحتى يجمّلوا صورتهم و”يقوّدوا” ببعضهم البعض.
وكل بلاد العرب التي هي محميات وليست دولاً يتنافس حكامها على مدّ مخابرات الأعداء بكل ما يتوفر لديهم حول جوارهم من العرب الآخرين لكأنهم عاهرات تتنافس على إرضاء قوّاد كبير اسمه الذراعان ومن ورائهما روسيا وأمريكا. ونفس الأمر تفعله النخب في الحرب على الإسلام: يتنافسون على إظهار حقدهم عليه لعلّ ذلك يقربهم ممن يرشحهم للزعامة الفكرية والحداثية.
وكنت واثقاً من أن بعض الشيوخ الأمريكان الذين يتظاهرون بالمطالبة بدم خاشقجي ليسوا صادقين بل هم بذلك يطالبون بنفس الرشوة التي حصل عليها ترومب وصهره حتى يسكتوا عن الجريمة الشنعاء من نفس أمير المنشار الأحمق الذي لا يعلم أنه لو دفع كل ثروة السعودية لن يتوقف الابتزاز من قبلهم جميعاً.
والجميل في هذه الوضعية هو وضوحها: لم يعد الأعداء يخفون أن “الضرب” وصلَ إلى المرجعية نفسها بعد أن تأكّدوا أن تفتيت الجغرافيا الإسلامية وتشتيت التاريخ الإسلامي وما ترتبت عليهما من فقدان شروط التنمية المادية والتنمية العلمية والتنقية كلُّ ذلك لم يجد نفعاً لأن الأمة بدأت تخرج من غيبوبة دامت قروناً.
فاكتشفوا سر العنفوان: (القرآن ومحمد) لغزٌ لا حول لهم ولا قوة ضده، فكانت محاولات التشويه لرمزي المرجعية ومن هنا كان دور داعش بصنفيها في تشويه الاجتهاد وتشويه الجهاد. فالأمة اليوم تعاني من داعشين: داعش السيف وكاريكاتور التأصيل، وداعش القلم وكاريكاتور التحديث، يشوهان الاجتهاد والجهاد.
غاية المحاولة ليس ما وصفت هنا بل ما يترتب عليه: فالوضعية وحدت رهان الثورة المضادة قبل الثورة لأن أصحابها وحماتهم اكتشفوا سر صمود الأمة فصارت معركتهم ضدها عامل توحيد سيفرض على الثورة أن تنسج على المنوال، ويكون فعل الثورة هدفه إزالة التفتيت الجغرافي والتاريخي شرطي التنميتين.
وهذا يقتضي عدم الاعتراف بالحدود التي وضعها الاستعمار. وبذلك تبدأ شروط المطاولة التي تعتمد على الجغرافيا والتاريخ أو بصورة أدق على سعة المكان وطول الزمان. فالمطاولة كفن حربي لا يمكن أن تنتصر على المناجزة إلا بجعلها مستحيلة بسعة المكان وطول الزمان وذكاء المقاومة وصبر الإنسان.
ورغم أن ما تحققه طالبان يشبه استعمال سعة المكان وطول الزمان فإن ما أعنيه مختلف تماماً. فالثورة لا ينبغي أن تكون مجرد حرب أهلية بين الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي، بل المطلوب هو القيم الكونية التي من دونها لا يمكن للأمة أن تستأنف دورها التاريخي: إبداع فريد من نوعه مثل النشأة الأولى.
فما تفعله حركة طالبان لا يختلف عما فعلته حركات اليسار العربي بالقضية الفلسطينية كما تبين من سبتمبر الأسود إذ تحولت القضية إلى تنافس تهديمي لشروط تحقيق النجاح المطلوب في المقاومة، بحيث صارت عملية جعل النجاح شبه مستحيل، لأنه يؤدي إلى النكوص إلى البداوة والتوحش بدل بناء الحضارة، وبذلك فلا فرق حينها بين شباب الصومال وطالبان وكلّ الحركات التي تحولت إلى ما يشبه المليشيات التي توظفها قوة ما من جنس المرتزقة المأجورين، وليس الهدف توحيد شعب حول قضية حتى وإن كان الطرف الثاني من الشعب محالفاً للعدو لأن الهدف هو فكّ الارتباط بينه وبين العدو وليس القضاء عليه معه.
وعلى كلٍّ فلو اقتصرنا على الهلال وحده -في انتظار عموم المقاومة للإقليم من موريتانيا إلى العراق ونازلا منه إلى اليمن فالقرن الافريقي- فإن المعركة اليوم تجاوزت الحدود بين العراق وسوريا وهذه بداية جيدة لجعل الأعداء عاجزين عن الانتصار مهما استعملوا من قوة بشرط ألّا يكون بأسلوب داعش.
فرغم أن المغرب وتونس لم تحاربا مع الثورة الجزائرية إلا أنها ما كانت لتنجح لولا مساهمة المغرب وتونس في السند المادي والروحي، لأن الحدود بقيت مفتوحة للمقاومين الجزائريين وكما سبق أن ذكرت فقد كنّا شبابا متطوعاً ليس في الحرب مباشرة بل في السند المادي والمعنوي كل بما يقدر عليه.
والثورة الجزائرية كان بوسعها أن تحصل على حاضنة شعبية في الجزائر وفي القطرين المحيطين بالجزائر، لأن قادتها كانوا يعلمون أنّ الحاضنة الشعبية لا ينبغي تحميلها بقاء المقاومين فيها وكأنهم جيش نظامي بأسلحة ثقيلة، فيمكنوا العدو من تهديم المدن فوق رؤوس الحاضنة كما حدث بسبب غباء أمراء الحرب، إن ما يفقد الثورة حاضنتها التي تحمل الثورة ما يحصل لها عندما تصير دروعا بشرية لقادة حمقى في حرب مع قائد أكثر منهم حمقاً هدم بلاده وجعلها مسرحاً لكل مليشيات إيران وتجريب روسيا لأسلحتها التدميرية.
كما أن الثورة الجزائرية لم تصل إلى حدّ تهديم المعابد من أجل قتل مندس أهلي أو عدو أجنبي لأن ذلك يحول المقاومة إلى إجرام وإرهاب فيفقدها الأساس الخلقي، لكأنهم ينسون أن الجهاد الهجومي لم يقرره الله إلا في حالتين بأخلاق الحرب الإسلامية لحماية المعابد كلها ولحماية المستضعفين كلهم.
وإذن فالمقاومات السنية بسبب غباء قياداتها نالت منها عدوى الإرهاب الباطني الذي كان طيلة تاريخ الإسلام أكبر أعداء القيم القرآنية وحليفاً لأعداء الأمة. وهو كان يفعل ذلك بقصد من أجل فارس والكسروية لكن المقاومين السنة يفعلونه لحمقهم ولأنهم بوعي أو بغير وعي أدوات الباطنية والغرب.
وطبعاً هم كذلك من أدوات الأنظمة العميلة التي هي بدروها من أدوات الذراعين (إيران وإسرائيل) مباشرة ومن وراء إيران وإسرائيل من التدخل الاستعماري الدولي بحيث إن كل ما يجري حالياً ليس في صالح الأمة بل بالعكس هو من معاول تهديم ما بقي من شروط النهوض لإرجاعها إلى القرون الوسطى.
مثال ذلك أن القاعدة التي تلت دورها في افغانستان كانت من أدوات أمريكا بتوسط السعودية ثم صارت من أدواتها بتوسط إيران. ذلك أن أمريكا بعد أن حسمت التنافس مع الاتحاد السوفياتي اعتبرت الإسلام العدو البديل ولم يكن لها حليف في الداخل إلا إيران والأنظمة العميلة والحرب هي التشويه.
لذلك ورغم أن من قاموا بضربات 11 -9 أغلبهم سعوديون، فإن المحرك الحقيقي هو الملالي الذين آووا جماعة القاعدة وأوهموهم أن ذلك من علامات البطولة، وهو من علامات الغباء الذي كان الأمريكان نفسهم أحوج إليه وهم يريدون حصوله لأنه هو الطريقة الوحيدة لإرجاع جذوة الحرب للشعب الأمريكي بعد فيتنام الأليمة لهم.
فأكثر الناس استفادة من 11-9 هم المسيحية الصهيونية والصهيونية والصفوية والأنظمة العميلة إذ بات مجرد تهمة الإرهاب كافية لإفقاد حركة التحرير الفلسطينية فاعليتها في الرأي العام وأصبحت إيران تساوم الغرب بدماء السنة وكذلك الأنظمة إذ لا حجة للسيسي وبشار وأمثالهما إلا حجة الإرهاب.
وأذكر أني في أسئلة وجهتها لي جريدة الحياة حول 11-9 مباشرة بعد الضربة، أجبت بأن هذه الحادثة ستصبح الحجة التي تطيل عمر الاستبداد والفساد في بلاد العرب لأن حجة الإرهاب ستكون أقوى حجة لمنع أي مقاومة مهما كانت شرعيتها سواء ضدهم أو ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
وأذكر أني أرسلت رسالة مفتوحة إلى المرحوم ياسر عرفات مباشرة بعد 11-9 بضرورة التخلي نهائياً عن المقاومة المسلحة في الانتفاضة واستبدالها بالاحتجاج المدني الذي هو أكثر فاعلية بعد أن صارت المقاومة عسيرة التمييز عن الإرهاب، وخاصة بعد بدعة العمليات الانتحارية التي هي أيضا من الغباوات ذات المفعول العكسي تماماً لأنها توحد بين الجيوش المعادية وشعوبها.
لم يحدث أبداً أن قامت الثورة الجزائرية التي لا يمكن لأحد أن يزايد على أبطالها بعمليات انتحارية. ولما استعملت القنابل في المقاهي أو في الملاهي فهي كانت تستعملها ضد الجيش وليس ضد الشعب عامة لأنها كانت ذات قيادة واعية وتفهم منطق العصر. وبإذن الله فالثورة مستمرة في التحرر والتحرير.
وإذا كان ذلك غير مقبول ضد الأعداء فكيف به عندما يكون في حرب أهلية حيث العدو يوحد نفسه مع الشعب، فيجب العمل حتى يعزل ولا يبقى له من الشعب أحد معه فضلا عن البقاء في الحاضنة في حرب كلاسيكية تمكن الخصم من جعلها ضدك لأنك جعلتها رهائن تتدرع بها.
انتهى