في سنة 2009 تسنى لي ولعائلتي أن نجوب سورية شمالاً وجنوباً ولا سيما غرباً، فلم نترك مكاناً في جبال الساحل إلا وزرناه، ولا ضيعة إلا ومررنا عليها، وكانت متعة المتع يوم نجلس على كراسي القش، ونأكل فطائر التنور من أيدي القرويات المكافحات، وكنا نعقد معهن الصداقات، لأننا غدونا من زبائنهن الدائمين.
إحدى هؤلاء المجدّات المثابرات كانت من ضيعة (نملة) في الجبل المطل على بحيرة بلوران، وكان عمرها قرابة السبعين عاماً. كان تنورها على الطريق العام بجانب البحيرة، وكنّا نستأنس بالجلوس عندها، والإفطار، لأنَّها تقوم على خدمة مهنتها وزبائنها بكل لهفة ومحبة.
في أول مرة وقفنا عندها طلبنا منها أن تصنع لنا فطائر بالجبنة والزعتر ودبس الفليفلة، ورغم نحافتها فقد عجنت العجين بجدّ، ورققته بمهارة ورشاقة، وخبزته بخبرة واحتراف، كان مجمل حركتها وأدائها يشيان بأنَّ حزمة طاقتها قد أُحكمت عقدتها فهي غير قابلة للاسترخاء.
همست زوجتي في أذني: انظر إلى وجهها كم هو حلو؟ نظرت فرأيت مخايل الطفولة ما زالت تحوم حوله، رغم التجاعيد والأخاديد، ورأيت عينين لم أستطع تمييز لونيهما: هل هو الأزرق أم الأخضر؟
تجاذبنا معها أطراف الحديث، واسترسلنا معها، فعلمنا أنَّها تعيل عشرة أشخاص بمن فيهم أولادها وزوجاتهم، وأنَّهم يساعدونها مرة، وينشغلون عنها أخرى.
فأما نبرتها فنمّت عن طمأنينة ورضى، وأمَّا ملامحها فأنبأت عن انسجام تام مع الذات، بل ومع المحيط كله.
كان الفقر بالنسبة إليها واقعة طبيعية، كالبرد والمطر في الشتاء، والحر والصحو في الصيف، فلِمَ التأفف والتضجر؟!
شعرنا أنَّنا أمام اكتشاف، وأنَّنا أمام لوحة أخرى من لوحات الطبيعة التي ملأت كياننا بالنشوة والسعادة، والهيبة والجلال، وانتابنا التضاؤل أمام عطائها وعزمها وانسجامها واطمئنانها.
إنَّها لم تعرف الصبر، لأنَّها لم تحتج إليه، فقد كانت تطحن في طاحونة الرضى كل المنغصات والكروب، ثمَّ تذري كلَّ ما يتناثر منها في مهب الرياح، عاملناها كأنَّها قديسة، وجعلناها مثلاً أعلى لنا ولأولادنا، وقارنّا بينها وبين معظم نسائنا الحلبيات اللواتي لم يكنّ مفطورات على الرضى، بل على التعاسة والإتعاس، واللواتي يجلسن في أبراجهنّ العاجية، وكلما تقدم بهنّ العمر ازددن شحماً وهماً وغماً، فلا تسمع منهنّ إلا الشكاية والتبرّم والسخط، ولا تسمع أيضاً إلا المقارنات المجحفة بينهنَّ وبين من هنّ أعظم شأناً ومرتبة وحظاً.
في إحدى المرات زرناها في آذار، كان الطريق خالياً، والمكان شبه مقفر، لكنها كانت موجودة تبتغي رزق من تعول، ما إن جلسنا عندها حتى انهمر المطر كأنه المتوالية الهندسية، جلسنا وعلى يميننا البحيرة تحيط بها الجبال، وفوقنا سقف من القش يظللنا، ويرشح علينا.
كان المشهد يأتلف من:
– منظر السماء الملبدة بالضباب، الذي تتخلله فتحات صغيرة فينفذ منها ضياء يداعب الأشجار الكثيفة في التلال والجبال، وينعكس على مياه البحيرة، فيلونها ببريق قادم من عالم الأحلام.
– ومن صوت حبات المطر التي تنقر سطح البحيرة كأنها أصابع عازف بيانو، في أعلى حالاته التصعيدية، فيتقافز منه لحن مهيب يعصف بالروح ويهز الفؤاد.
– ومن خلطة الروائح العطرية الصاعدة من التراب، ومن الحشائش، ومن أشجار الصنوبر والحراج.
أُوقد التنور، فتحلقنا حوله، وغرقنا في قشعريرة انتعاش أرواحنا وأجسادنا بالصور والأصوات والروائح وبرودة المطر، وجعلنا نقول: يا رب هل كل هذا الجمال لنا؟
ثم جاء ابن لها بعد قليل وأعدّ لنا الشاي، كنت أحسبه للوهلة الأولى ابن خمسة وأربعين عاماً، لكن لدى التدقيق أدركت أنه أصغر من ذلك بعشر سنوات.
سألته: هل أنت علوي؟ فأجاب: كلنا إسلام، نعبد الله، ونعبد محمداً. فقلت في لهجة يختلط فيها الجد بالمزاح: ونعبد علياً أيضاً. فأشار بيده، وهزّ برأسه: ونعبد علياً.
قلت له: هذا ابني واسمه علي، وهو في الصف الرابع. فمطّ علي عنقه، ورأرأ بعينيه مزهواً، وقال لأخوته: أرأيتم يعبدونني!
أمسكت بعنق علي كأني أخنقه بين إبطي وساعدي، وقلت له: أنت شيطان لا تستحق سوى الفلقة.
ضحكنا بملء قلوبنا، وبملء حبات المطر المتساقطة التي كانت ساعتئذٍ تغسل كل شيء، كل شيء.