بقلم : أحمد يزنأصبح وشيكًا وقت مغادرتنا للمعتقل، وقفنا متأهبين للذهاب، ومتاع كل منَّا في يديه، ولم يكن يرهقنا حمله لأنَّه لفة صغيرة من الثياب وبعض الحاجيات الأخرى. كنَّا قد استيقظنا على وقع أقدام مدير المعتقل وزبانيته وأصواتهم، كان الوقت منتصف الليل، فوُثِّقْنا بالقيود بعد أن تمَّ إخراج كل من قُرئ اسمه من زنزانته، وجاءت الباصات لنقلنا إلى سجن كبير رهيب، الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود، كان عددنا كبيرا فأركبونا في ثلاثة باصات، وركب في كل باص مع من ركب من السجناء ثلاثة من الزبانية، أمرونا أن نخفض رؤوسنا كي لا يبدو أحد منَّا أنَّه راكب في الباص، وفي الطريق بدؤوا ينهروننا ويضربوننا على رؤوسنا بعصا صغيرة وكرباج مجدول ، كانوا يفعلون ذلك جيئة وذهابا إلى أن وصلنا بعد ساعات طوال إلى ذلك السجن.وصلت دفعة السجناء الجديدة صباحا، كانت سرية التأديب قد استعدت مجتمعة لاستقبالنا، وقد أحضروا سياطا كثيرة ودواليب، إضافة إلى العصي ووسائل التعذيب الأخرى، وبدأنا ننزل من الباصات واحدا واحدا، وكل منَّا يداه مقيدتان للأمام ويحمل بها صرته الخاصة، وما إن يدخل أحدنا باب السجن الخارجي حتى تأتيه ضربة قوية من أحدهم تجعله يصيح بأعلى صوته، تتضعضع قوته وتخور، وينسى الحليب الذي رضعه من أمِّه، وبعد أن دخل جميع السجناء إلى السجن جُمعوا في غرفة مظلمة وتُليت أسماؤهم وأُخذت منهم هوياتهم، ثم أُخِذوا إلى باحة التعذيب وتدعى (الباحة السادسة).وعلى الطريق إلى الباحة السادسة باحات عدة، كل باحة لها باب، قد اصطف عدد من الجنود على طرفي مسيرنا وهم يطلبون منَّا أن نغمض أعيننا، وفي ذلك السجن الرهيب علينا أن نغمض عيوننا بشكل كامل مهما يكن وبأقصى سرعة من دون تلكؤ أو تذمر!في ذلك المكان ازداد شقاؤنا، يا رباه ماذا نفعل؟!طلب منَّا أن نخلع ثيابنا كيوم ولدتنا أمهاتنا إلا من السروال القصير الذي يغطي سوءاتنا فقط، ثم قاموا بتفتيش ثيابنا وحقائبنا الصغيرة وأكياسنا، لأنَّ كل شيء هنا في السجن ممنوع. كان كل شرطي يحمل بيده عصا أو سوطًا طويلا أسود، وهو يتوعد ويهدد ويتبجح ويزمجر، وقد أحاطوا بنا وطوَّقونا وصرنا كالنعجة الضعيفة التي أحاط بها عدد كبير من القصابة والسلاخين، وكلٌّ منهم يحمل سكينا حادًا وقد شحذها حتى أصبحت أدقَّ من الشعرة، وهم يتسابقون ليحظى الواحد منهم بشرف ذبحها قبل غيره.ثم طلب منَّا أن نقف ونتجه جميعا نحو جدار هناك، طبعا ونحن مُغمضو العيون، واحدٌ منهم كان يحمل سوطًا مطاطيا في رأسه كتلة حديدية كروية ثقيلة، راح يضرب بها كل منَّا ضربتين إمَّا على ظهره وإمَّا على فخذه من الخلف، فحين يضرب الواحد منَّا الضربة يشعر وكأنَّه قد انفصم إلى نصفين أو شطرين، فتباعدا ثم َّتقاربا والتحما، وآخر منهم يحمل عصا ثخينة وطويلة تدعى (المورينة) يضرب بها كل سجين ضربة تجعله يصيح صيحة مدوية فيغيب عن الوعي للحظات.وبعد ذلك بدؤوا يأخذون كل واحد منَّا ويضعونه في الدولاب وينهالون عليه ضربا على رجليه وكافة أنحاء جسمه بالسياط والعصي، وهو يستغيث ويستنجد، ويتأوَّه ويتلوَّى، إلى أن تصبح كلتا رجليه فاحمتين سوداوين متورمتين، وأصبح في رأسه عدد من الثبورات وتغير شكله، وتظل تنزل عليه السياط كالمطر الغزير إلى أن يتعب الجلادون وتنهار عزيمتهم.وأخيرًا أدخلونا إلى مهجع كبير وكلنا يئن ويصيح، ثم أغلقوا باب المهجع الحديدي وانصرفوا.