بقلم : أحمد يزنكان قدومنا إلى ذلك المكان في منتصف فصل الشتاء، وبعد حفلة الاستقبال الرائعة والحفاوة البالغة وقبل المغرب بقليل يُطرق باب المهجع ويفتح، وصوت من الخارج يقول: ادخل يا كلب.. ادخل يا حقر.. يا..، إنَّ هذه الكلمات هي عذبة جدا إذا ما قيست بالكلمات النتنة التي اعتدنا سماعها من السجانين فيما بعد. وإذ يدخل إلى المهجع ما يقرب من خمسة وثلاثين سجينا، ثمَّ يغلق الباب فتبدأ حفلة التعارف بيننا وبين القادمين الجدد، إنَّها دفعة جاءت من دمشق وهم خليط من فئات مختلفة، من الإخوان المسلمين، ومن البعث اليميني الذي يتبع للعراق، ومن أحداث الشغب من اللاذقية كما كانوا يسمون، ولا يبدو عليهم آثار الاستقبال، هؤلاء الجدد جميعا قد حوكموا في دمشق، وقاضي المحكمة يدعى بالقعقاع، وكانت أحكامهم تتراوح بين السنة الواحدة والمؤبد، وقالوا بأنَّ قسما منهم قد حُكم عليه بالإعدام وقد نُفذ فيه، نظروا إلينا وكنَّا في حالة يرثى لها، فحمدوا الله أنَّهم قد نفدوا من الاستقبال، ونحن عللنا ذلك بأنَّهم محكومون، وأنَّهم سيكونون معنا لفترة مؤقتة، وتفاءلنا بأنَّ فترة التعذيب لن تطول علينا، وأنَّ حالنا سيكون أفضل عندما نحاكم، ولكن لفت انتباهي واحد منهم، ذراعه اليسرى ملفوف عليها شاش أبيض، ويبدو أنَّها مكسورة، وقد ضُمدت وعلقت إلى عنقه، وبينما نحن كذلك إذا بصوت من الأعلى ينادينا بأن ننام، فساد الصمت وغططنا في نوم عميق.في الصباح ومع أول شعاع خافتٍ من الضوء، صارت الأشياء التي ظهرت غامضة مخيفة في الظلام تزداد الآن وضوحا، وأخذ المطر يتساقط غزيرا سريعا، وأخيرا.استيقظ الشاب فصاح صيحة ألم خافتة، ذراعه اليسرى كانت قد رُبطت بغير عناية، وقد تعلقت بجنبه ثقيلة قليلة النفع، وكان الرِباط قد بلل بالدم، وكان من الضعف بحيث لم يعد يقدر على القعود إلا بمشقة، ثم نظر حوله بضعف باحثا عن عون، تأوَّه من الألم، ووقف على قدميه ببطء، وحاول أن يمشي، لكنَّه ترنح إلى الأمام وإلى الخلف كما يترنح السكران، ومع ذلك واصل المسير ورأسه مال إلى صدره، وهولا يدري إلى أين يذهب، حتى وصل إلى إحدى زوايا المهجع وقعد.استيقظنا جميعا وأجسامنا متعبة منهكة، وكلٌّ منَّا جلس في مكانه واجما وهو يتحامل على نفسه، وبعد أن أُدخل طعام الفطور الذي كان طستين أو جاطين، واحد ملئ نصفه ماء أسود وهو الشاي، وواحد فيه قليل من الزيتون بحيث لكل سجين أربع حبات منه.وبعد برهة من الزمن، جلبة قوية تدوي في الساحة، أصوات الشرطة تنبح وتنعق، يصيحون ويهددون ويتوعدون مثل الكلاب الشاردة وقد كشرت عن أنيابها، وكأنَّها لم تذق طعاما منذ زمن بعيد، يقتحمون المهجع وأحدهم يقول: من جاء البارحة من الشام مساء؟ فليخرج إلى الساحة، وعلى الباقين أن يدخلوا صدر المهجع.بدأت حفلة الاستقبال لهم، ما أصعب من التعذيب إلا سماع أصوات المعذبين، السياط تلعلع وتلسع، والعصي تدق وتقرع، والأصوات تؤذي وتجرح، أصوات استغاثة من شدة الألم وهول التعذيب، تختلط الأصوات الناتجة عن التعذيب بنباح الجلادين من شرطة سرية التأديب وقد أذاقوهم صنوفا مختلفة من ألوان التعذيب لمدة ساعة ونصف تقريبا، غير أنَّ هذه حفلة التعذيب للقادمين من دمشق كانت رغم قسوتها أخف من حفلة استقبالنا، ويعزى ذلك إلى أنَّ سرية التأديب كانت قد أنهكت في استقبالنا في اليوم الماضي وخارت قواهم، وبعد أن أنهوا الحفلة، ماذا حلَّ بالشاب ذي الذراع المكسورة؟كانوا قد أوسعوه ضربا على مختلف أنحاء جسمه، ولكنَّهم ركزوا الضرب على يده المصابة، فصار يرقص في المهجع كالديك المذبوح من الألم، وهو يتأوه ويستغيث، ويجهش بالبكاء، أمَّا نحن فكانت جراحنا قد بردت، وصارت الآلام تتزايد والأوجاع تتعاظم، وراح كلٌّ منَّا يلهو بنفسه، إنني لا أكتب قصة من الخيال، فهي ليست رواية أبدعها خيال كاتب ذائع الصيت ثم أخرجها مخرج سينمائي عظيم ذائع الصيت، إنَّها حكاية شعب ذليل يهان على يد جلاد فظيع، تجعل الأم تذهل عن طفلها الرضيع.تجمهر بعضنا حوله وراحوا يهدئونه علَّه يخفف عنه من الآلام، وكان بيننا طبيب نزع له الشاش الملطخ بالدم، وقام بتجبير يده ثانية مستخدما قميصًا داخليا أبيض كان معنا قصَّه على شكل ضماد، وأعاد ربطها إلى عنقه، وطلب منه ألا يحركها.