منيرة بالوش |
“اعتقلتُ وعُذبت، ثم تهجرت وحُرمت من عائلتي، لكني أؤمن أن لكلٍ منّا في هذه الدنيا رسالة، يجب أن يكافح لإيصالها”
رافقت هذه الكلمات حديث السيدة ” هدى حمدو ” ٤٤ عامًا عن معاناتها وهجرتها إلى الشمال السوري، وعن اندماجها في المجتمع من جديد.
دخلت “هدى” المعتقل في ٢٠١٥ مع ابنتها “تقى” ذو الأربع سنوات بعد إيقافهما عند أحد الحواجز الأمنية، لتمضي عامًا كاملًا متنقلة بين عدة أفرع أمنية في دمشق، للضغط على زوجها لتسليم نفسه، وهي طريقة اتبعها النظام مع معارضيه استغل فيها “النساء والأطفال”.
في حين أُودعت الطفلة “تقى” فور دخولها المعتقل في جهة مجهولة بعيداً عن أمها.
بقيت هدى تصارع مرارة الاعتقال وحرمانها من ابنتها وباقي أسرتها وخوفها من مستقبل مجهول يمضي بين جدران السجن. غير أن الإصرار الذي تملكه في قلبها ونظرتها المشرقة جعلتها تصنع من جدران السجن الصماء ألواحاً تخط عليها الحروف وتعلم بعض النساء الأميات مبادئ القراءة والكتابة، لتقتل الوقت بالعلم، وتشحن تلك النفوس المرهقة بشيء من الإنجاز.
حصلت على حريتها بعد عام في صفقة تبادل أسرى بين الفصائل والنظام، كانت واحدة من خمسة نساء فقط نلنَ حريتهنَّ من القيد وبقي الكثيرات من النسوة ينتظرنَ مصيراً مجهولاً.
لم تستطيع “هدى” البقاء في دمشق بعد اعتقالها لِما ذاقت من العذاب، فكانت فكرة البقاء في ظل نظام قمعي تعسفي كما وصفته فكرة مرعبة وغير منطقية، فقررت الهجرة الى الشمال برفقة بناتها الأربع، حيث أوقفت عدة مرات على الحواجز في طريقها من الشام إلى إدلب، لكنها استطاعت الوصول أخيراً والاجتماع بزوجها الذي ينتظرهم جميعاً.
ثم استقرت في قرية بالقرب من مدينة أريحا، وهنا بدأت محطة جديدة في حياة هدى.
لم تعتد هدى على الجلوس في المنزل دون عمل، فهي معتادة على العطاء أينما كانت، وهنا بالشمال المهمة أصعب، البيئة المحيطة تفتقر لكثير من أساسيات الحياة، الأطفال فاتهم قطار العلم، والحرب لم تنتهِ، والكارثة تكبر دون أن تلقى من يوقفها.
عملت هدى قديماً معلمة، واكتسبت خبرة من دراستها الشريعة وإتقانها تجويد القرآن الكريم، وعليه فقد جمعت بين أكثر الطرق سلاسة في تطبيق القراءة السليمة للحروف، لتخرج بطريقة سلسة وسريعة في تعلم مهارات القراءة للطفل، من خلال دمج الطريقة الرشيدية والنورانية الخاصة بالتجويد وبين القراءة العلاجية لتصبح لها بصمة خاصة في مجال التعليم، اختبرت نجاعتها خلال سنوات عملها الطوال في التعليم قبل أن تهجر إلى الشمال السوري، وتبدأ محطة جديدة في حياتها.
فتحت بيتها المتواضع للأطفال، وبدأت بعشر طلاب، تعلمهم مبادئ القراءة، بدأت معهم من الصفر، فالغالبية لديهم ضعف في القراءة وجهل تام بالكتابة، بدأ العدد يكبر، فانتقلت لبيت أكبر جعلته خصيصاً للطلاب، حتى وصل العدد إلى ٦٠ طالبًا بأعمار مختلفة وهو مرشح للازدياد، يجمعهم حب العلم الخلاص من الأمية المبكرة التي تلاحقهم.
كان عمل هدى طوعيًا ومجانيًا، طالما عرفت بأعمالها التطوعية، فهدفها الربح الأكبر وهو إنقاذ الجيل من الجهل والأمية وهذا أكبر مكسب تحققه كما قالت لنا.
اليوم تدير هدى روضة خاصة للأطفال، ومعهد للفتيات الناشئات، يتم فيه تدريس اللغة العربية والإنكليزية والرياضيات وحفظ القرآن الكريم أطلقت عليه معهد” طريق النور” ، الذي رأت من خلاله ثمرة جهودها وأوصلت الرسالة التي تبنتها إلى مستحقيها، و استطاعت بفترة قصيرة، أن تساعد أكثر من مئة طفل وطفلة على القراءة السريعة حسب طريقتها المذهلة التي باتت اليوم تدرس بالمدارس تحت مسمى ” القراءة العلاجية ” دون أن تشعر الطفل بصعوبة ذلك بمساعدة بناتها وعدد من نساء القرية رغم قلة الإمكانيات المادية وندرة الدعم المالي باستثناء بعض المساعدات العينية من بعض الأشخاص كالمقاعد والألواح والأقلام.
تقول هدى أخيراً: “تعلمت الإصرار على النجاح من النساء السوريات اللواتي يبدأن حين ينتهي كل شيء، يقفنَ في العتمة ليُضئنَ الطريق لمن حولهنَّ، يمسكنَ يد الضعيف، فتقوى”.
هدى ككثيرات من النساء استطاعت أن تفعِّل دورها بالمجتمع وتصنع لها مكاناً مشرقاً وأن تُحيل المحن إلى منح وتزرع الأمل في الأرض القاحلة طالما تمتلك الأمل والطموح.