جاد الحق |
لا يبحث الإنسان في علاقاته الاجتماعية عمَّا ينقصه، بقدر ما يبحث عمَّا يتوافق مع نفسيته وقيمه، فصاحب الأخلاق والقضية يبحث عمَّن يشابهه، وصاحب النفس الدنية وحب المال يبحث أيضًا عمَّن يشاركه هواه.
بإدراك هذه المفاهيم يقل تأثرنا بالصدمات العرضية التي تواجهنا أثناء البحث عن أشباهنا، ويتحول حزننا على فقد شخص ما، أو مفارقة مجتمع، من حزن إلى عرس، وفي ذلك يستحضرني نماذج لرسل الله أحب سردها لتقريب الفكرة أكثر:
1) يوسف عليه الصلاة والسلام، الطفل المدلل من أبيه النبي يعقوب، المكروه من إخوته حسدًا وغيرة، تحول بمكيدة إخوته من طفل سعيد ينشأ بين حب والديه وحنانهما، إلى طفل منبوذ، مرمي في بئر قد يهلك فيه، حتى منّ الله عليه بإنقاذ حياته بقافلة جعلته عبدًا مملوكًا بعد أن كان حرّا، وليس ذلك فحسب بل باعوه بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.
لكن حين قيض الله له من يشتريه، ويستشعر عظمته وخطورة قدره، كانت النتيجة أن يوسف لم ينفع عزيز مصر فقط، بل نفع مصر كلها، وأنقذها من كارثة اقتصادية محققة، ومجاعة مهلكة، كادت أن تفتك بمصر وشعبها.
2) كان موسى عليه الصلاة والسلام ابنًا متبنيا لفرعون، ممَّا جعل موسى يربى على أنه أمير، وبالتالي نال ما يناله الأمراء المنعمين المترفين من الدنيا، لكن نفس موسى الرسولية لم ترد من الدنيا أكثر ممَّا يعينها على مهمتها العظيمة (تحرير شعب بني إسرائيل)، لذلك لم يجد هذا الأمير صعوبة في اتخاذ القرار بترك كل ما لديه، وخسارة كل المكتسبات المادية، في سبيل الفرار بنفسه ودينه وحريته خارج أراضي الطاغية، والذهاب إلى مدين ليعيش فيها غريبًا وحيدًا فقيرًا، لكن على الأقل حرّا، ثم رضي وهو سليل بيت الملك بمصاهرة عائلة متواضعة الإمكانات المادية تعيش على رعي الأغنام، لكنها عائلة عظيمة النفس، شريفة المشرب، والدليل على ذلك أن البنت وأبيها اكتشفا بفِراستهما أن موسى الفقير الغريب ليس شخصًا عاديًا، بل هو شاب بإمكانات عظيمة، ويومًا ما سينال من الدنيا ما يليق بإمكاناته، فاتخذوا قرارهم بناءً على هذا التقييم، وكانت النتيجة أنهم ظفروا بكليم الله، ومحرر بني إسرائيل، والرسول العظيم من أولي العزم، صهرًا لهم هم، من دون الناس أجمعين.
3) سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وُلِدَ يتيما، وكان من عادة أهل مكة أن يرضعوا أبناءهم خارجها، فكانت النساء المرضعات تقدم من البادية لمكة حتى تأخذ الأطفال الرضع، ويتسابقنَ على أخذ الرضع من أبناء الشخصيات الغنية والمهمة في مكة، وكلهنَّ رأينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضيع اليتيم فأعرضنَ عنه زُهدًا فيه!!! فهنَّ يرجون إحسان والد الرضيع وكرمه وأمواله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا أب له، فتركنَه ترفعًا عن يتمه وقلّة ذات يد أمه وجده، مع أنه الرحمة الموهوبة للعالمين، وأعز خلق الله عنده، حتى جاءت حليمة صاحبة الحظ العظيم التي أنهكها وزوجها الفقر والضنك، ولم تجد بمكة رضيعًا تأخذه، فقررت حليمة ألا تعود خالية اليد، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرة، وأصبحت أمًّا له بالرضاعة، وكلنا يعلم ما حصل لاحقًا من أحداث وكرامات، حوّلت حليمة من امرأة بدوية في صحراء مكة كانت لتعيش وتموت كحال صديقاتها المُرضعات دون أن نسمع بأي منهنَّ، حولتها إلى أم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وعرفنا باسمها وقصتها مع اليتيم العظيم بعد 14 قرنًا من وفاتها.
فمن هو الخاسر حقًا؟ هل هو يوسف، أم من رماه بالجب، أم من باعه زهدًا فيه، أم من أعرض عن شرائه، أم من اشتراه بدراهم معدودة؟
هل خسر موسى بمفارقته طبقة الأشراف والأغنياء في مصر يوم فرّ بدينه وحريته من طاغيتها ليعيش غريبًا فقيرًا بعد أن كان أميرًا مطاعًا، أم أن هذه الطبقة هي التي خسرت موسى؟
ماذا حول النساء المرضعات اللواتي أعرضنَ عن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم تكبرًا على يتمه وفقره، وأخذته حليمة لأنها لم تجد غيره، من خسر ومن ربح؟
ثق تمامًا أنك إن كنت صاحب همّة، وأخذت بأسباب النجاح، فإن القدر سيكون خير حليف لك، وأن من تركك لضعف في دنياك قد قدم لك خدمة العمر، فهو ببساطة يخبرك بلسان حاله أنك تستحق من هو خير منه، كما يستحق هو من دونك، وكلاكما سيجد من يستحقه، وأفضل انتقام تقوم به ضده هو أن تيسر له أسباب لقائه بقرينه، وقرينه سيقوم بالواجب معه على أتم حال.
أما قال الفتى العربيُّ يومًا: شبيه الشيء منجذبٌ إليهِ؟!