محمد ديرانية |
لم يكنُ هناك أيُّ شيء يلوحُ ويُنذرُ بأنَّ شيئاً ما استثنائياً بإمكانه أن يحدث ويغير خريطة التفكير المعتمدة والسائدة.
لم يكن يُعتقد بإمكانية المرور فوق مطبٍّ يدفعُ للصدمة والإخلال بهذا الرونق الثابت المتكرر … فكلُّ الأمور كانت على ما يرام فيما يبدو، وتجري وفق ما دأبت أن تجري عليه …
لا شيء يُلفتُ النظر، أو يبشّرُ بواقع استثنائيّ …
كبحيرة صغيرة لم تزل حلقاتها تتوسع في اتجاه واحد، كلما ألقى فيها طفلٌ حجرة صغيرة، كانت تسيرُ الأمور …
في كلِّ مرحلة كانت تتكررُ التجربة ذاتُها وبأدوات المرحلة المواكبة لكل مرحلة، ومع كل تجربة كانت تنهمرُ سلسلة من اللكمات والدروس القاسية على الجميع.
ورسائلُ تحذيرٍ وتنبيهٍ واضحةٌ كان يتركها القدر عقبَ هذه الدروس، يريدُ ممَّن تألم أن يتنبّه لها، ويفهمها بالشكل الصحيح.
لكن الناس لم يكونوا يلتفتون إليها أبداً، لأنَّ النفوس كانت مأسورة بنظرية مُسبقة، أغلقَت عليها كل منافذ التفكير، وفُسحة مراجعة القناعات.
وفيما بعد جرى اعتبارُ توالي الدروس القاسية بليّة تزكية، قد ساقها الله ليختبر صبرهم على تلقي اللكمات.
وبالتالي بُرهاناً على صواب الذهنية التي يتعامل بها الناس مع ما يجري، و دعوة صريحةٌ للتمسك و التشبث بها.
كمنعطف حادٍّ ظهرَ فجأة في طريقٍ ذي اتجاهٍ واحد يُفضي إلى المجهول … ولدت ” داريا” ولادتها الأولى في الثورة … ولفورها خرجت عن المسار السائد…!
لعلها بركة نبيّ دفنَ فيها، أزهقَت روحه الطاهرة يدٌ آثمةٌ لبني إسرائيل لم تحصِ كم قتلت!
أو لعلها قدسية صحابيٍّ وحواريٍّ للنبي الخاتم، سكن ودُفنَ فيها، فكان هذا البأسُ منها انتقاماً ساقته ملائكة مُسوّمةٌ عند ربك، لم تدعَ محيصاً لمن اجترأ واعتدى عليها…!
أو لعلها بركة دعوة فلاحة عجوزٍ على الفطرة لم تزل، سكنت فيها يوماً، ساقَت من خلف دعوتها أسراباً من الملائكةِ تُنفذِ أمرَ الله بمن اجترؤوا عليه ؟!
أو ربما … على الوجه المقابل … الوجه المتروك … ذاك الذي أخذت داريا به منعطفها الحادّ والمتميز …
لعلها العيون المُرهقة من السّهر، وحباتُ العرق المتدلية، وكوبُ شايٍ قد أُفرِغَت محتوياته على السجادة بالخطأ من هول الزّحام، عند انفضاضِ اجتماع أعضاء (فريق الدراسات والتخطيط) مساء الخميس!
أو لعلّه بركةُ الردّ على المشروع بالمشروع، وعلى المكر بالمكر، وعلى التنظيم بالتنظيم، وعلى البحث ببحث مضاعف، مُضافاً عليه امتلاكُ عقيدةٍ صحيحة سليمة!
أو لعلها الدراسات الدؤوبة، واغتنام الكفاءات، والتحرر من الأساطير والأوهام التي يدفعُ بها اليأس والعجزُ، والانتماء لجيلٍ يؤمن بالعلم والمنطق كصانع للحضارات والانتصارات، والتحررُ من الانغلاق على الذات، ومن الكهنوت الديني.
والانفتاحُ على الآخرين، بمختلف انتماءاتهم، والاستفادة من العلاقة التي تربط المجتمع بهم بشتى الوسائل والسبل!
أو ربما هي بركة تحكيم الوعي و المنطق، و مواكبة الحاضر و تسخيرُ أدواته و موارده قدر المُستطاع في خدمة القضية و المبدأ.
أخذت داريا منعطفها الحادّ، لترفع الميزان أمام أبصار الجميع … بكفته الأولى بركة الرجل الصالح الذي ستثأرُ الملائكة بأجنحتها من كلِّ من يجترأ على التعدي على مدينة. دُفنَ فيها!
وبالكفة الثانية… نبذ الأوهام، والوقوف موقف المسؤولية … والعمل وفق منظومة الأسباب الصحيحة، خارج صندوق المعايير التواصلية المهيمن بالغالب على الساحة.
بين كفّة الوهم والأساطير والتواكل، وكفّة الوعي والتفكير المنطقي والأسباب،
كُتِبت سُطور هذه الرواية، لتحكي قصة الصراع بينهما، في التراجح بين الكفتين، وعن الكفة التي ربحت في النهاية …
ستجدون فيها أجزاءً كثيرةً من روحِ ووجدان الكاتب، قد سالت لتشارك الحروف والكلمات حيّزها من الصفحات …
ستمرون فيها على قطعٍ كثيرة منه .. معلقة بين الفصول والأقسام، توازي تعلقه الشديد بالمدينة، ذاك الذي دعاه ليكتبَ عنها، ويخرجَ معها شيئاً من روحه، ويحقنَها بخلاصة تجربته وعصارة خبرته.
ستجدون فيها شيئاً من أنفسكم، ذواتكم السابقة، صِراعاتكم الداخلية، شُكوككم التي ضمَرت دون أن تحصل على حسم، الأسئلة التي طرحتموها على أنفسكم بهمس، وبقيَت بغير إجابة، ولم تجرؤوا على البوح بها للملأ.
وسط فوضى الظنون، وكآبة الرونق الثابت.
وفي غمرة عدم لواحِ ضوءٍ في الأفق يشِي بأن للنفق نهاية …
ظهرَ الانعطاف المُفاجئ في الدرب المُفضي إلى المجهول …
وكانت داريا … ذاك الانعطاف … في [لحن الممات] …
وفيها … لم يبق سؤالٌ بلا جواب …