نارمين خليفة |
صداع شديد يجعلني عاجزة عن ترتيب الكلمات أو حتى وصف ما حدث بمكاملة صوتية، ليس خوفًا وليس هلعًا، ربما الحزن وهو أمر معتاد لا جديد.
الكثير من الأعباء والالتزامات عليّ إنهاؤها ومنها هذا النص، ليس الهدف أن أفسد لحظات السعادة خاصتكم، وحتى استجداء التعاطف، فالأمر بات مملاً بالنسبة إليَّ أيضًا لكن ربما تكون الكتابة إحدى الإستراتيجيات المهمة التي تساعدني على التكيف مع هذا الجحيم، فأنا الآن أمارس التفريغ النفسي وليس على أحد أن يقرأ إذا لم يكن راغباً.
في يوم جديد بشمسه كئيب على مستوى الشعور الداخلي يحاول السوري أن يتحسس انفراجة لإنجاز كثير من الواجبات والمخططات في العمل والدراسة، بالإضافة إلى مسؤوليات البيت والطفل.
لكن يبدو أن الطقس لا يساعد على ذلك، طالما أن الشمس مشرقة فهذا يعني أسراب من الطيران تتربص بحياتنا المتهالكة.
بالنسبة إلي أحاول أن أطمئن نفسي تارة باتفاقيات دولية هزيلة، وتارة أخرى بحذف كل قنوات التحذير والتنبيه من حياتي (مراصد الطيران وقنوات الأخبار)، وبين تخيل إعلان هدنة والبدء بتطبيقها، وبين الإخطار عن الطيران وتشغيل صوت الإنذار، وبين التفكير بكتابة هذا النص والوصول إلى الجهاز المحمول، كان الطيران قد باغتنا بغارة جوية معلناً القيامة في المرفق الصحي الذي أعمل به وفي المدينة (إدلب) التي تحاول مثلي الحياة أيضًا.
ولحظي العاثر، كحظ كل من يعيشون في هذا الوطن الذي قررت الإنسانية المتوحشة حرقه، فإن طفلي ذو العشر سنوات كان يرافقني إلى مركز العمل، وبدون تفكير وبغريزة حب البقاء هربت أنا وأغلب من في الطوابق العليا للطوابق الأرضية، وهناك كانت القيامة حقًا، نساء تبكي ورجال يصرخون وتجمع كبير وهلع أكبر، بينما بدأ وصول المصابين إلى المشفى، إصابات خطيرة يرقد أصحابها دون حراك، وإصابات أخرى تصرخ وتتأوه.
بينما بعض الأمهات يركضنَ خلف النقالة بلباس بسيط لا ترتديه نساء إدلب عادة، لحقني الشيخ الكبير وقال لي: ألبسيها جيداً (قاصدًا المرأة التي خرجت من تحت الأنقاض) لم آبه له بل تركتها في رعبها ووقفت بجانبها حتى طلبت المساعدة، وقبل أن أنسى كما نسيت السيدة جراحها من هول ذعرها على صغارها، اصطحبتها لإحدى الممرضات تتفقد رأسها وعنقها المدمى، هنا تذكرت ابني الذي تركته في الممر مذعوراً، كان يناديني هيا نخرج رغم أن الطيران مازال في الأجواء، لأنه ذُعر من هول المشهد، وبغريزة الأمومة وباندفاع الإنسانية عانقته لعله يهدأ، لكنه أبعدني بذعر أكبر صارخًا يداكِ ملطختان بالدم! للحظة تخيلت نفسي أنا من قتل هؤلاء الناس، تخيلت نفسي مسجاة بدمائي، حتى لو مجازاً شعرت بشعور الضحية والجلاد مع تفاوت وتباعد الوجدان والشعور.
على كل حال ربما يستطيع قاتلنا أن ينام مطمئن البال، ولكن نحن هنا الضحايا
القتلى جسديًا ونفسيًا وشعوريًا لن نستطيع النوم تحت وطأة جراحنا ومخاوفنا ووجع فقداننا وكوابيس أطفالنا.
كان عليَّ المغادرة من أجل طفلي الخائف، ولكن لم تسعفني الشجاعة وخفت البقاء في المنزل بمفردي، تصورت أن مشاركة الزملاء في المشفى مشاعرَ القلق وأخبار الغارات وقصص القتلى قد يبدد أو يخفف مخاوفي، بينما كانت تنهال الاتصالات من أهلي وأصدقائي أن أغادر المشفى فربما يكرر الطيران غاراته على المكان نفسه، وفي ذات الوقت كنت خائفة على رفاقي وأهلي، أتصل على أخي العامل في الدفاع المدني وصديقتي التي تسكن في الشارع نفسه وأخي الصغير طالب الجامعة.
لقد قُتل في هذه الغارة التي قَتلت بهجة يومي طالبَين جامعيين، وسرقت قلب أمهاتهم بينما أتيح لقلبي النبض مجددَا.
في عودة قلقة مساء ودعت الفتيات العاملات بعضهنَّ فربما تسرق الغارة التالية جسد إحداهنَّ وفرح الأخريات، غادرت المكان وحيدة إلا من بعض الأفكار المفزعة، هل يمكن أن نقابل الأحبة في اليوم التالي؟ هل يمكن أن تشرق شمس يوم آخر بدون هذا السجيل الهابط من السماء؟ هل يمكن لنا أن نعتاد حياة هادئة كالحياة يومًا ما؟!