من جملة ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتَه في آخر الزمان كثرة الفتن والابتلاءات الفردية والعامة، والثانية أشد، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “كيف بكم وبزمانٍ يوشك أن يأتي، يُغرْبَل ُالناسُ فيه غَربلةً، وتبقى حُثالةٌ من الناس قد مَرِجَتْ عهودهم (أي: فسدت)، وأماناتهم، فاختلفوا، وكانوا هكذا، وشبَّك بين أصابعه، قالوا: كيف بنا يا رسول الله إذا كان ذلك؟ قال: تأخذون بما تعرِفون، وتَدَعون ما تُنكرون، وتُقبِلون على خاصتِكُم، وتَذرون أمر عوامِّكم“. رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهم بسند صحيح. وكذا حديث: “يتقاربُ الزمان، ويُقبضُ العلمُ، وتظهرُ الفتنُ، ويُلقى الشُّحُّ، ويكثُر الهَرَجُ» قالوا: وما الهرج؟ قال: القتلُ“. رواه الشيخان.
فهذه الأحاديث وغيرها الكثير تخبرنا أن الفتن قادمة لا محالة، فمنها ما انقضى، ومنها ما نعيشه، وأخريات عظيمات ما حان وقتهنَّ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن درجات الفتن: “منهن ثلاثٌ لا يَكدْنَ يَذرْنَ شيئًا، ومنهُنَّ فِتنٌ كرياحِ الصيفِ منها صِغارٌ ومنها كِبارٌ“. رواه مسلم وأحمد.
ولتعلم أخي المسلم أن هذه الفتن ما جاءت عبثًا، فأهميتها كامنة في كشفها لمعادن الناس وفضحها لرؤوس المنافقين، لكن أهم ما فيها أنها تذكرةٌ من الله تعالى لعباده أن يتوبوا من ذنوبهم لأنها، بلا شك، من أهم أسباب البلاء لأن الله تعالى يقول: “وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ” (الشورى:30)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينًا طائفة من أسبابها: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يَعُمَّهم الله بعقابٍ” رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم بسند صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي، بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتَنْهَوُنَّ عن المنكَر، أو ليُوشِكنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عِقابًا منه، ثم تدْعونَه فلا يستجابُ لكم“. رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح.
لذا فإن أهم فعل فيه هو عبادة الله عز وجل، من فعلٍ للأوامر وتركٍ للمنهيات، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العبادة في الهَرَجِ كهجرة إليَّ“. رواه مسلم، قال ابن رجب: “إن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دِين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسكُ بدينه، ويعبدُ ربه، ويتبعُ مَراضيه، ويجتنبُ مساخِطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم”. (لطائف المعارف: 132).
ولا صلاح لهذه الأمة إلا بالعودة إلى الإسلام الصحيح البسيط الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما سأله الصحابة الكرام عما يفعلونه في زمن الفتنة قال: “ترجعون إلى أمركم الأول“. رواه الطبراني في الكبير بسند رجاله موثقون.
ولعل أهم ما يستفاد من الحديث السابق في الساحة الشامية حاليًا هو تجنب فتاوى أهل الأهواء والأحزاب والجماعات التي تدعوا إلى الحكم بالفسق والبدعة والضلال على كل مخالف لهم، بل والأسوأ من ذلك تكفيرهم وإصدار فتاوى باستباحة دمائهم وأموالهم بحجج تافهة، وما هذه الفتاوى إلا جزء لا يتجزأ من الحرب على الثورة السورية من خلال تفتيتها وشرذمتها بمثل أولئك المشايخ “المخابراتيين” الذين هم أعمدة الفتنة في زماننا بلا خلاف، فكم من نفس مسلمة قُتلت أو جرحت تحت هذه الحجة؟ وكم ضاع على المسلمين من أموال وتجارات وصناعات وزراعات لأنها استُبيحت بسبب هذه الفتاوى الشاذة؟
لذا، فهذه دعوة أبثها لي ولكم لتجديد التوبة إلى الله تعالى عما بدر منا من نقائص، واغتنام الأوقات فيها، والتمسك بجماعة المسلمين، ونصرتهم، والابتعاد عن تنقيصهم أو الشك في إيمانهم وعقيدتهم تحت أي بند كان لأن العمر لا شك منقضٍ، وسنقف جميعًا أمام الله عن ذلك مسؤولين…والله تعالى أعلم.