عبير علي حسن |
كلُّ عامٍ وأنت بخير.. مضى على العيد أسبوع، لم أشأ أن أزاحم عائلتك بتهنئتك، تركت مجالاً لزوجتك وأولادك.. لأمك وأبيك.. لجيرانك وأصحابك.. للأصدقاء ورفاق الدرب.
خفت أن أكتب برقيَّتي ولا تصلك لانشغالك بهم.. أو أن تضعها جانباً لتعاودَ قراءتها بعد أسبوع من زحمة العيد.
اليوم أرسلتها لك بعد قراءتي لكتابك “زنزانة”.. (زنزانة.. كلمة لم تتسع لها المعاجم واتسعت لها الحياة) هكذا بدأتَه. كان ذاك قبل خمسةِ أعوام، حدثتنا حينها عن عادة مدى الحياة، يظل الإنسان يفعل الفِعلةَ حتى يعتادها وتصبح حالة راسخة يصعب تغييرها، ولكنك أردفت قائلاً: “العادات هي مثل الثوب الذي نلبسه، وُلدنا من دونه وبإمكاننا تبديله إن كان قبيحاً، ولكن إن أردنا ذلك حقاً.” كنتَ تشعر بالاستحياء عندما تُسلم على والدك وتُقبِّل رأسه في أولى المرات التي هممت أن تبرَّه بها، وإذا بك تُسلم عليه بطلاقة وتُقبِّله بكل ودٍّ، عندما أصبح الأمر (بروتوكولاً) أخلاقياً، إذاً البر والعقوق هما مجموعة عادات وأنماط من السلوك المستقر سواء كان واعياً أم غير واعٍ. وكم حدث لنا ذلك مع آبائنا إلى أن أعتدنا برَّهم. قرأتُ فيما بعد أنّ العادة تأتي أحياناً على هيئة مراءاة، كمن اعتادت أن تخرج من بيتها بالعباءة والخمار، وما إن تصل إلى وجهتها التي تريد تغيير نمط سلوكها، فتتعالى الضحكات وتتطاير الشعور. وقد يضرب الأب ابنه على ترك الصلاة ويقهره على التزامها لأنه لا يريد أن يقال: ابن فلان لا يصلي، فينشأ الطفل ولديه الصلاة عادة وليست عبادة، فيتحيَّن الفرصة التي تسمح له بممارسة حريته ورغبته في نقيض ما تربّى عليه. إذاً هل نحن مجتمعات مرائية؟ التعميم خاطئ، لكنّ عدداً ليس بالقليل من رجالنا ونسائنا لا يعبرون عن أنفسهم بقدر ما يعبرون عن مجاملة من حولهم بشيء من التكلف والتصنع والتمظهر الذي يُلغي استقلال الشخصية ووضوحها، كما أنه في حالات كثيرة يتغلب الرقيب الاجتماعي على الرقيب الإيماني مما يؤدي إلى ظهور المراءاة الاجتماعية.
تطرقّتَ فيما بعد إلى فوائد العادة، فقلتَ إنّها تسهل القيام بأعمال مختلفة وإتقانها في آن واحد، الكتابة على لوحة المفاتيح والتفكير والتحدث والضحك وشرب القهوة ومطالعة الواتس آب، لأنّ فعل الكتابة يخلو من الانتباه الذهني. كذلك فإنّ العادة تشجع على التكيف مع المواقف الجديدة واكتساب عادات قريبة من العادة السابقة. أفدتُ كثيراً من قراءة كتابك، حقاً إنك عقلٌ مفكر، ليس أخيراً لأن كتابك يحوي من العلم ما لا تحويه كتبٌ أخرى ولكنها نتيجة ملخّصة وصلت إليها أنّ عاداتنا أسلحة يمكن أن نستخدمها في مواجهة الظروف، ويمكن أن نصوبها إلى أنفسنا أو إلى من حولنا دون أن نشعر، العادة تكون إيجابية إذا سيطرنا عليها، وسلبية عندما تستبد بنا، وتكون عائقاً أمام تقدم الفرد والمجتمع.
ختاماً أُلقي عليك السلام، كنتُ أتمنى لو أن لك عيداً، لكنك تقبع الآن في زنزانة فولاذية لا تُشبه التي حدثتنا عنها، وأعلمُ أن زوجتك قد تُوفيت وأنك في مكان لا يصله حبيب ولا قريب، لكنني أخالك تمكث في زنزانة عاداتك، تعيش العيدَ في ذاكرتك، مع العائلة والأهل، وربما عاد لك مذاق الحلوى ورائحتها نسيماً ما لبث أن رحل، وأظن أنك لم تفوت تلبية يوم عرفة كعادتك لكنّك كنت ملبياً في هذه المرة: “لبيك اللهم سجيناً.. لبيك اللهم مسكيناً”. أراك الآن وأنت تفعل ما كتبته قبل خمسة أعوام تقرأ الوِرد من (صحيح الكلم الطيب) للألباني، و(المأثورات) لحسن البنا؛ لأنك أخبرتنا بأنه لديك إحساس يقيني داخلي بأنّ الله يحفظك بهذا الوِرد في أحلك ظروفك(السجن).. ووضعتها داخل قوسين ربما لشعورك أنك ستدخله يوماً.. هي زنزانةٌ كتبها ودخلها عالمٌ لم يبع دينه لسلطان فكان جزاؤه القمع والإخماد.