جاد الغيث
كأنه لم يكفِ أهل حلب الشرقية أن يخرجوا من حلب مقهورين ومحزونين بل كان لا بد من إذلالهم وتحطيم قلوبهم حتى يموتوا ألف مرة قبل أن يصلوا إلى الريف الغربي.
فقد صار حلم وصولهم إلى الريف الغربي يتطلب أن يجتازوا صراطاً معوجّاً مليئاً بالأنقاض والركام، طويلاً أطول من ستّ سنوات من العذاب، بينما نهاية هذا الصراط هو انتظار قد يدوم لأيام لا ماء ولا طعام فيه إلا ما حملوه في حقائب حزنهم.
غير أنه لا وقت محدد للرحيل فالأمر يعتمد على عدد الباصات ومزاج المفاوضين، وإن أكثر ما يحرق القلب ألماً هو حال المصابين والجرحى من أصحاب الحالات الباردة طبياً، والحقيقة أن خطأ التسمية يبدو واضحاً بشدة، فحرارة الألم على أولئك المصابين تجعل الدنيا حولك تحترق كما أحرق الكثير من أهل حلب الشرقية ممتلكاتهم بأيديهم فذلك أهون عليهم من أن يتركوها لجند النظام.
طوابير السيارات العابرة المحمّلة باليأس والضياع والخوف من القادم مع نوافذ مفقودة وهياكل سيارات محطمة تعطيك انطباعاً أن هذه السيارات مشهدٌ مهمّ من فيلم للرعب استمر تصويره قرابة ستة أعوام، وكل ما فيه حقيقي: ” المشاهد، والأبطال، والديكور والإضاءة، والموسيقى التصويرية كبكاء الأطفال وصراخ الناس وهم يرون بأعينهم أهوال القيامة الصغرى ويعيشون ساعة من ساعات الفزع الأكبر حين نادى المنادي على المعبر (النظام يتقدم نحونا)”.
أما الذين نجاهم الله من ذلك اليوم الأسود فقد كان عليهم أن ينتظروا ليومين أو أكثر في العراء حتى يأتي دورهم في الرحيل.
حرقوا كل ما يمكن حرقه ليحصلوا على الدفء، واسترجعوا مع الدخان الأسود والبرد الشديد كل ما هو مؤلم وحزين طوال سنين ثورتهم التي طعنت بملايين السكاكين الحادّة وتمزقت إلى ألف رقعة.
أنا شخصياً انتظرت ثلاثة أيام مع لياليها ونمت جالساً في إحدى المرات في قلب خزانة ملابس قديمة في بيت مهجور مدمّر صار مأوًى لي ولأصدقائي ريثما حصلنا على صك العبور.
وكان ثمنه عذابنا وأوجاعنا وذكرياتنا الرائعة التي انتحرت على مذبح بوابة المعبر الباكي بكل ذراته ” ترابه وحجره وركامه”، وما دفن تحته من عائلات كانت يوماً على قيد الحياة فصارت اليوم قيداً لذكرى تجرح القلوب وتجعل العيون تبكي دماً.
أما البارحة فقد نمت في فراش وثير وبيت دافئ، ولكن الفراش والدفء لم يغير من تفاصيل الكوابيس التي سترافقني في أحلامي مدى الحياة، فما زالت الأبنية تتهدم فوق رؤوس أصحابها، وما زلت أسمع صراخ النساء، وأرى بوضوح وجوه الشهداء.
باختصار لقد خرجت من حلب سالماً، ولكنها لن تخرج مني أبداً!