نواصل مع كتاب سنوات الظلام للمؤرخ الفرنسي جوليان جاكسون حيث يتحدّث الكتاب عن مواجهة فرنسا للحرب العالمية الثانية، وكيف انقسمت إلى اتجاهين: الأول يقوده المارشال بيتان الذي استسلم تمامًا لألمانيا بدواعي الواقعية، والثاني بقيادة الجنرال ديجول الذي بدأ برسم إستراتيجية جديدة لمواجهة الغزو بما تبقى من قوة الإمبراطورية الفرنسية دون الاستسلام لقوة الصدمة التي خلّفها الغزو.
والمدهش أن رؤية ديجول كانت واضحة فيما يتعلق بالخطر القادم على عظمة فرنسا وقد رأى الخطر من مصدرين:
- ألمانيا: كابوس وقع.
- أمريكا: كابوس يتشكل.
أي أن ألمانيا وريث يطالب الآن، بينما أمريكا وريث يهيئ المستندات الداعمة للمطالبة، وكذلك فإن الحلم (المشروع السياسي لديجول) نظر إلى المستقبل في عينيه وتمكن من تحديد مصادر الخطر على هذا المستقبل.
ولم تكن تلك قراءة في الغيب، إنما نظر إلى الخريطة واطلع على التاريخ، فألمانيا في أوروبا جار ومنافس وخصم وعدو في فترات مختلفة من الجوار، ثم إن الولايات المتحدة هي الدولة التي أنشأت نفسها بطرد الإمبراطوريات من أمريكا بادئة بطرد بريطانيا مستعينة في لحظة من اللحظات بفرنسا، ولما انتهت حرب الاستقلال عن بريطانيا ودخلت العلاقة بين المستعمرات القديمة والإمبراطورية المهزومة مرحلة جديدة بحكم وحدة اللغة الإنكليزية جاء الدور على الإمبراطورية الأخرى فإذا الولايات المتحدة تطارد فرنسا إلى أقاصي القارة شمالا وجنوبا، تخرجها من الجنوب حتى خليج المكسيك (نيو أورلينز) وتحصرها في الشمال داخل جيب في (كندا) تراجعت إليه كل المواريث الثقافية التي تركتها فرنسا في العالم الجديد.
الثابت والمتغير في أحوال الأمم:
وقبل هبوب إعصار الحرب العالمية الثانية عاشت فرنسا حالة حيرة شاملة وعنيفة، فقد كانت فرنسا تشك في الجمهورية الثالثة كلها من دستورها إلى مؤسساتها ورجالها، وكانت تعاني من انقسام داخلي بين اليمين واليسار وكلاهما يطرح نفسه بإلحاح باعتباره اليقين المؤدي إلى القوة، وكانت فرنسا تتابع ما يجري في القارة حولها وتخشى سطوة ألمانيا النازية وهي تزيد كل يوم وتنتزع لنفسها مساحات من الأرض والنفوذ تمكن لها في قلب أوروبا:
- المنطقة المنزوعة السلاح على الحدود بين ألمانيا وفرنسا بمقتضى معاهدة فرساي وهي منطقة السار دخلها قوات هتلر دون إنذار.
- النمسا جرى ضمها إلى ألمانيا دون طلقة رصاص واحدة، وأصبح الرايخ الثالث متحققا(بوحدة الأمة من وحدة اللغة)
- إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا جرى إلحاقه بألمانيا، والآن يطالب هتلر باستعادة منطقة (دانزيج) بدعوى عرقية من بولندا لتكتمل حدود الرايخ الثالث.
وكانت فرنسا ترى الخطر الألماني يستشري ويتفاقم لكنها لم تكن واثقة من قدراتها على إيقافه ورده، وفوق ذلك كانت تشعر أن بريطانيا تحرضها على التصدي لألمانيا وأن السياسة البريطانية هي هي لم تتغير تبغي تحقيق انتصارها بجنود غيرها ودمهم، أي أنها تريد محاربة هتلر إلى آخر قطرة دم فرنسي.
وفي ذلك المناخ انتشرت مقولة قابلة للتصديق مؤداها “أنه ليس هنالك قضية تستحق أن تنتحر فرنسا من أجلها”.
وعندما انزلقت فرنسا في الحرب العالمية الثانية وشاركت فيها أقبلت مترددة وقد حاربت في بعض معاركها بنصف اقتناع ونصف عزم ونصف مجهود وهنا كانت الهزيمة نتيجة بعد مقدمة ولحظتها تنبهت فرنسا وأفاقت، وكذلك ظهر الرأي الذي يرفض الاستسلام ويطالب بمواصلة القتال من فرنسا وراء البحر –من الإمبراطورية- وبالتحديد من شمال إفريقيا.
إقرأ أيضاً: سنوات الظلام فرنسا 1940- 1944.. (3)
كانت الإمبراطورية في خيال فرنسا الرافضة للهزيمة الميدان الذي يتعين على حكومة باريس أن تنتقل إليه وأن تواصل الحرب منه، وإلا فهي نهاية فرنسا حتى في أوروبا، بمعنى أن قوة فرنسا ليست تراب الوطن الفرنسي، وإنما هي الإمبراطورية التي تضيف للتراب تلك العظمة التي تنشأ للدول من نفوذها وهيبتها خارج حدود ولايتها، فما هو داخل الدولة تصنعه سلطتها، وأما الخارج فإن الوجود فيه هو المعيار الذي تقاس به القوة ويقوم على أساسه المجد.
وكانت تلك بالضبط هي النقطة التي بدأ منها ديجول مهمته في حركة فرنسا الحرة عندما ذهب بها لاجئا إلى بريطانيا، وقد وجّه حديثًا واحدًا إلى الأمة الفرنسية وهو رفض الاستسلام، ولم يتأثر بضغوط الخارجية البريطانية، ولم يضعف أمام رئاسة الأركان الإمبراطورية البريطانية التي كانت تحرضه على لم شتات جيش يحارب، وإنما كان همه هو الإمبراطورية.
إن أول عمل حقيقي فعله ديجول، وبعد شهر من خروجه من فرنسا، كان توجيه نداء إلى كل حكام المستعمرات الفرنسية يدعوهم باسم فرنسا الحرة إلى قبول حركة فرنسا الحرة تجسيدًا لشرعية فرنسا بدلاً من الحكومة التي استسلمت للأمان ووقعت معهم اتفاق سلام ثم تكومت على نفسها في فيشي.
وكان ديجول مدركًا لحقيقة أن عددًا من حكام تلك المستعمرات الفرنسية ضباط من الجيش يعرفهم أو يعرفونه، وقد استجاب بالفعل ثلاثة منهم وهم: الحاكم العسكري لتشاد والحاكم العسكري للكونغو الفرنسية، والحاكم العسكري للكاميرون.
وهكذا وجد ديجول لحركته موطئ قدم فرنسي في نطاق الإمبراطورية، ثم توجه لزيارة هذه المستعمرات الثلاث بعد أن تأكد أن حكامها العسكريين سيستقبلونه استقبالاً يليق بعظمة فرنسا، وذهب ديجول إلى الإمبراطورية الفرنسية في إفريقيا ليعلن تكوين (لجنة الدفاع الإمبراطوري) ومعها (حكومة مؤقتة لفرنسا الحرة).
وكان وينستون تشرشل، وبتأثير البيروقراطية الدبلوماسية والعسكرية البريطانية، غير مرتاح لما يفعله ديجول وتصوره أن فرنسا الحرة تحارب معركة التحرير بعيدًا عن الميدان، لكن ديجول كان على يقين مما يفعل.
ثم مضى يجري تصرفاته وفق حلمه وبإملاء مطالب هذا الحلم بمنطق أن مجد فرنسا قبل ترابها الوطني في هذه اللحظة، وهكذا فإنه بعد إنشاء الحكومة المؤقتة لفرنسا الحرة سنة 1940 واصل طريقه:
- سنة 1941 حاول الألمان، وبسكوت يعني الرضى من جانب حكومة فيشي، أن يدخلوا سورية ولبنان لمساعدة جيش روميل المتقدم إلى مصر من الغرب، ورأت بريطانيا الدخول الألماني إلى سورية ولبنان خطرًا طارئًا من الشرق فقررت القتال في ظروف صعبة رآها ديجول مبكرًا وتقدم لاستغلالها في اللحظة المناسبة، فأجرى اتصالات مع كبار الحكام العسكريين الفرنسيين لأملاك الإمبراطورية الفرنسية في المشرق وقد حدث، وأمكن حصر القتال وحصل ديجول على جائزته بأن رفع علم فرنسا الحرة على دمشق وبيروت.
- وفي سنة 1942 كانت إستراتيجية الحلفاء بعد اشتراك الولايات المتحدة في الحرب أن يقوم الجيش الأمريكي بالنزول في شمال إفريقيا (المغرب والجزائر) لكي يقوموا بحصر جيش روميل في ليبيا وبذلك يتم طرد ألمانيا وإيطاليا من إفريقيا ومن ثم تتركز الجهود على أوروبا، وأحس ديجول أن الأمريكيين يخشون أول مخاطر عملية عسكرية لهم في الحرب بعد ضربة بيرل هاربر التي دمرت فيها الأساطيل العسكرية بقيادة الأميرال (ياماموتو) كل أسطول أمريكا في كامل المحيط الهادئ بضربة واحدة مفاجئة عام 1941،
ومرة ثانية، وفي إمبراطورية فرنسا المغربية (المغرب- الجزائر-تونس)، كما وقع من قبل في إمبراطورية فرنسا المشرقية (سورية ولبنان) تقدم ديجول بعرض تسهيل دخول القوات الأمريكية دون معارك، وقد قام بترتيب الأمور مع الحكام الفرنسيين في شمال أفريقيا، وقد كان شرطه أن يرتفع علم فرنسا الحرة على أعلى الساريات في الرباط والجزائر وتونس لكي تكون إعلانًا عن عودة كل الإمبراطورية الفرنسية (المجد الفرنسي) حول البحر الأحمر.
- وفي سنة 1943 – أي بعد ثلاث سنوات تقريبا على استسلام فرنسا- التفت ديجول إلى تنظيم المقاومة السرية ضد الاحتلال الألماني على التراب الفرنسي وبدأ ينشئ الخلايا ويقيم التنظيمات ويرتب لعمليات تخريبية ضد الاحتلال الألماني: قواته، ثكناته، مواصلاته، تسهيلاته الإدارية، أفراده، وكذلك المتعاونون مع الاحتلال الفرنسي وحتى البغايا.
وكان اهتمام القيادة المتحالفة بالقيادة الفرنسية أكيداً لأنها عدت نشاطها ضد الاحتلال الألماني إزعاجًا بالنهار وأرقا بالليل، وتهديداً لمؤخرته في كل الأوقات.
- وفي سنة 1944 كانت خطة تحرير أوروبا بالنزول شمال فرنسا والتقدم منها لتوجيه ضربة قاضية إلى ألمانيا وفق عملية (أوفر لورد) قد تم إعدادها وبدأ الترتيب لتنفيذها وتحدد بالفعل يوم اقتحام الشواطئ الفرنسية وعليها الخط الدفاعي المنيع الذي بناه هتلر للدفاع عن أوروبا وأسماه حائط الأطلنطي.
وطلبت قيادة إيزنهاور القائد العام لقيادة الحلفاء والمسؤول عن خطة أوفر لورد من الجنرال ديجول طلبين:
- تنشيط عمليات المقاومة الفرنسية إلى أقصى حد ممكن في توقيتات معينة تتناسب مع الخطط العسكرية.
- تسجيل بيان بصوت ديجول يُذاع لحظة إنزال القوات ويحمل منه نداء إلى الشعب الفرنسي أن يقوم بكل جهد يستطيعه وإلى المقاومة الفرنسية في كل مكان لكي تخرج من مكامنها وتضرب بشجاعة.
وقَبِلَ ديجول لكنه إزاء طلبين من قيادة الحلفاء قدّم ثلاثة مطالب:
- أن يطّلع وأركان قيادته على الخطة العسكرية للحلفاء، بالذات فيما يتعلق بالأرض الفرنسية.
- أن يتضمن الأمر للقائد العام للقوات المتحالفة القائمة وهو الجنرال إيزنهاور ساعة بدء العملية؛ إشارة واضحة إلى دور فرنسا كحليفة بين الحلفاء المشتركين في الحرب.
- وأخيرًا أن تكون أول قوات تدخل باريس عند تحريرها مجموعة لواء مدرّع يقوده مساعده الجنرال ليكريرك.
وعندما علم الرئيس الأمريكي روزفلت بهذه الطلبات الثلاثة التي تقدم بها ديجول بعث برقية إلى رئيس الوزراء البريطاني يقول فيها: “هذا الرجل أصابه مسٌّ من الجنون على وجه اليقين وتعليقي على طلباته هو إبلاغه فورًا بطرده من الحركة التي يرأسها والبحث عن جنرال آخر عاقل (واقعي) يحل محله.”
وعندما علم أنتوني إيدن بالبرقية كتب لتشرشل يقول: “من سوء الحظ أن الفرصة فاتت لمثل هذا الإجراء لأن الفرنسيين في الداخل لا يعرفون غير ديجول وأي تغيير في تركيبة فرنسا الحرة في هذه الساعة المتأخرة سوف يحدث ارتباكًا في خطط التحرير، لذا فمن الأفضل أن تجري الأمور وفقًا لما هو مخطط لها، وبعدها نرى ما يمكن عمله”.
وعندما تحررت باريس هرع ديجول (في آب 1944) يسعى في موكب حاشد من ميدان الكونكورد عبر شارع الشانزيليه قاصدًا قوس النصر وسط تقاطع ميدان الأتيوال وكان قد دخل ومعه الإمبراطورية إلى موقع القلب من التراب الفرنسي.
كان ديجول وقتها رجلاً حقق حلمه الصعب بأن وضع وراءه كل إرادة فرنسا وإرادته، ولم يجنح إلى المستحيل وخياله بغير حسابات، ولم يسقط في الواقعية وهي بئر بغير قاع.