تطوَّرت الحياة واكتست بأردية ذات ألوان وأشكال متباينة، فأصبحت ذات جمال وحسن فاتن يضفي رونقاً ومتعة على صورتها، فخطف لبَّ الإنسان وعقله، وجذبته إليها كما ينجذب النحل إلى رحيق الأزهار، لكن عيبها أنها بين الحين والحين تصبح كالخمرة، تُسكر من يُكثر من شربها، فيصبح كالمتخبط الفاقد لوعيه وإدراكه، يمشي على غير هوادة ويهذي بما لا يدري أو يفقه، فيصيب الآخرين بعمد أو عن غير عمد بكلمات تفتقر إلى الحكمة والرشد..
هذا حالنا في بعض الأحيان لدى وقوعنا في شراك وسائل التواصل الاجتماعي إن نحن افتقرنا إلى الحكمة في التصرف، والرشد في تعاملنا مع الآخرين..
أصبحت الظنون ترهق كاهلنا، وتلتهم وقتنا، وتزرع البغض في قلوبنا، فتكسر كل روابط الألفة والمودة، وتجعلنا في شك وحيرة دائمَين، مشغولين عن كل شيء سوى بما قال ذاك أو كتبت تلك..! صحيح أن هذه الوسائل قد اختصرت ووفرت علينا الكثير، لكن الثمن أيضاً لم يكن بالهين.
لست بصدد التحدث عن آثارها ومضارها على حياتنا وعلاقاتنا، فلقد باتت معروفة لدى صغيرنا قبل كبيرنا، لكن أصبحنا بمواجهة مع الظن في كل محادثة كتابية نفتتحها، فالكلمات التي نرسمها بتهور من خلال لمسات على الشاشة أو على لوحة المفاتيح من غير تأنٍ أو تبيين لمعانيها ومغزاها، قد يصبح بمنزلة فرصة سانحة لسوء الظن بأن يتسرب للآخرين وخاصة إن كانت جملنا تحوي كلمات حمَّالة أوجه تُفهم بأشكال عدة..
فما إن يواجه أحدنا هذا النوع من الرسائل أو المحادثات، حتى يبدأ بالتفسير والتحليل، وفتح دفاتر الماضي وربط الأحداث الجيدة و السيئة مع بعضها البعض، وإرجاع المقصد من وراء كل كلمة إلى موقف نشب فيه خلاف أو حصل فيه سوء فهم، فيتشكل لديه مزيج وخليط من أمور عديدة قد لا يتعلق أحدها بالآخر ألبتة، ومشاعر متأججة مضطربة، ويصبح كمن ينفخ بالوناً كبيراً من الأوهام ينسف وينفجر بوجهه لدى إعلان المرسل له عن قصده وتوضيح غايته التي تكون في الغالب مخالفة عما تصوره وألّفه في عقله من وساوس واتهامات باطلة، هنا تبدأ سهام تأنيب الضمير تنهال عليه لما قد سولت له نفسه وساورته من شكوك وظنون، وأول ما يتبادر إلى ذهنه قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم”كل هذا ربما يحدث في دقائق معدودة، ويختلف حجم وهول الكارثة بطول المدة التي يتأخر فيه الرد أو الإجابة.
سؤال آخر يتبادر لنا، من المذنب والمتسرع هنا؟ أهو المرسل بتهوره وعدم التأكد مما يتم إرساله أم هو المتلقي بسذاجته واندفاعه بالحكم على نيات الآخرين؟!
هي مشكلة لا بد وأن تواجهنا في خضم هذه الوسائل التي غيرت من حياتنا، فكان من الواجب على كل فرد منا أن يأخذ بالتدابير والاحتياطات، ويتقن فنون استخدام هذه الوسائل قبل أن يقع ضحية هينة أمامها..
ربما من الصعب جعل الجميع يتنبه إلى ضرورة انتقاء كلماتهم بعناية والصبر وعدم الاندفاع والتوجس من أمور غير مؤكدة وموضحة له، والإقدام على الاستفسار عمَّا يقصده المرسل تجنباً لسوء الظن، ولذلك لو بدأ كل منا بنفسه، لأصبحت خطوة في سبيل خلق وإنشاء قواعد وأساسيات في استخدام هذا النوع من الوسائل، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..