فرات الشامي |
غالباً ما تحمل المصطلحات الساخرة بين طياتها وقائع تحتاج إلى مزيد من التمعن في حقيقتها، واستخراج رسائلها وإنذاراتها، ومع سقوط مفهوم “السيادة”، منذ تحول سورية إلى مزرعة يحكمها آل اﻷسد، تتأكد القناعة بسقوط مصطلح “الدولة”.
بالتالي؛ يواجه السوري مأزق توصيف لطبيعة الحكم، تحديداً في مناطق سيطرة نظام اﻷسد.
إن تدشين مصطلحات وإسقاطات تتفاوت فيما بينها من حيث الدلالة وقدرتها الحقيقية على الإشارة إلى وجهة النظر الصائبة ليس اعتباطاً، ولعل أصدقها إطلاق مصطلح مدينة البط، وجمهورية الموز.
وبمطلق اﻷحوال؛ فإنّ المتتبع ﻹعلام النظام، يستشف حالة اﻻبتذال والبلاهة السياسية واﻻجتماعية، واﻻنفصال التام عن الواقع، داخلياً وخارجياً؛ إضافةً إلى سقطات من يُطلق عليهم مجازاً (صنّاع القرار)؛ لنكتشف أننا أمام “دولة البطبطة” التي تُعيد إلى الأذهان شخصيات فكاهية عرفناها صغاراً، بدايةً من بطبوط وبندق إلى لوز وميكى، مروراً بمحظوظ والعم دهب، بذات العقليات الكرتونية تماماً.
تدريجياً نلحظ أننا في مواجهة حالة كرتونية، الفاصل فيها بين الحقيقة والخيال مجرد خيط، مع غياب كامل للمغزى والمعنى من الوجود، في مشهدٍ مسرحي تُحيط فيه شخصيات والت ديزني الكارتونية الشهيرة ببقايا الفكرة الثورية ورجالاتها، ضمن حيّزٍ جغرافي يُعْرَف بنشاطه العبثي، وحالة عقلية تتميز بتوقعات غير واقعية أو بغياب الجدية.
وإن كان البعض يميل لتوصيف دويلة اﻷسد إلى مسمى (جمهورية الموز) التي تحدث عنها كاتب القصة القصيرة الأمريكي (ويليام سيدني بورتر) الشهير بـ أو هينري O. Henry، في العام 1904 في كتابه (الكرنب والملوك Cabbages and Kings).
حيث يشرح المصطلح تماماً الوضع السوري السياسي منذ اعتداء حافظ اﻷسد على السلطة إلى إكمال اﻻنقلاب على يدي وريثه “بشار”، حيث تتجلى معالم عدم اﻻستقرار السياسي بشكلها الحقيقي واﻻعتماد على اقتصاد الشللية المرتبطة بالديكتاتورية الحاكمة ذاتية اﻻنتخاب، (عملية انتخاب ﻻ تعبر عن إرادة الشارع)، يتخلّلها الزواج الفاسد بين السياسة والاقتصاد.
وبالمجمل؛ فإنّ دولة تدعيّ الديمقراطية، تغتصب عنوةً تحت مسمى التصحيح، من الطبيعي أن تلِد وﻻدةً غير شرعية يحكم فيها أمثال “بشار”.
وإن ارتفعت بعض اﻷصوات التي تنادي بالحفاظ على “مؤسسات الدولة”؛ فإنّها نبرة تعلو لتمرير الممارسات القمعية، بل شرعنتها، بذريعة مُمِلَّة، تعزف على وتر المشاعر الوطنية للحصول على تأييد شعبي لسياسات القاتل، وبالطبع التأييد الحاصل جاء كمحصلة لحقبة تعبوية، حتى باتت استجابةً أوتوماتيكية للطريقة التي تم من خلالها تصدير العواطف الوطنية وخلطها بنظرية المؤامرة، وتقديمها متكأ لإسكات أصوات المعارضة، نحت كثيراً نحو شوفينية صريحة.
ولعل محاولة الربط بين كل تلك المصطلحات والجمع بينها بلا شك سيفرز “المجتمع المتجانس” الذي أُسس له خلال أربعة عقود؛ ضمن نظامٍ غير دستوري، وﻻ برلماني، أو حتى رئاسي، وإنما يعتمد في استمراريته على مجموعات مغيبة ذهنياً كنا نسميهم “المنحبكجية” وبمعنىً آخر؛ فقد تجاوزت سورية اﻷسد مفهوم الدولة العميقة، إلى “الدولة العبيطة”، وهو مصطلح موازن تماماً لمفهوم الدولة الفاشلة، غير القادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، وهذا ما نص عليه (نعوم تشومسكي) الذي يؤكِّد في كتابه “الدول الفاشلة” أنّ الخصائص الأكثر بروزاً فيها إضافةً إلى غياب الديمقراطية هي عدم قدرتها على حماية الناس من العنف، وربما من الدمار، أو إنّ صناع القرار فيها ينظرون إلى هذه الأمور كأولوية أدنى في سلم الأولويات، فكيف إذا كانت الدولة هي صانعة الموت، وتواجه المأزق الداخلي بتبريرٍ كالممانعة والمقاومة؟!
أعتقد أنّ هذا الخلل في الموقف من مسمى الدولة السورية، والمغلف بالسخرية، لم يكن ليظهر لوﻻ حالة الربط ذهنياً بين فكرة الوطن والنظام والدولة؛ مما جعل الفصل بين تلك المفاهيم صعباً.