عباس شريفة |
غالباً ما يكون الموقع الجغرافيّ الاستراتيجيّ لبعض الدول شؤماً عليها، بدلاً من أن يكون مصدر نعمة وخير لها.
لأنّ هذا الموقع يجعلها في دائرة الاستهداف الإقليميّ والدوليّ، ويحوّلها إلى ساحة تنافسٍ على النفوذ، وملعب لصراع مصالح دوليّة مؤثّرة.
وهذا ما ينطبق تماماً على (جيوبوليتك) سوريّة، ذي الأهميّة الكبرى على خارطة المصالح الدوليّة، والواقع في دائرة الاستقطاب الحضاريّ بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وعلى المعابر البريّة الأخطر بالنسبة إلى دول العالم.
ولهذا السبب وغيره لم يُعْرَف في التاريخ أن حُكِمت سوريّةُ من أهلها الأصليين من بداية تاريخها إلى أن رحل الاستعمار الفرنسيّ عن أرضها.
كما لا يعرف في التاريخ أنّ سوريّة والشام تحرّرت من قبضة الغزاة على يد أبنائها طوال التاريخ، إلا أن يكون المحرّر من خارجها، لتنتقل من سيطرة ونفوذ إلى سيطرة ونفوذ آخرين.
مثل هذه الدول لا يمكن أن تعيش حال الاستقرار إلا في حالين:
1- حال أن تكون هي بحدّ ذاتها قطباً محوريّاً عالميّاً، كما كانت الشام إبّان عصر حكم الدولة الأمويّة.
2- أو أن تحقّق حالاً من التوازن مع المحاور والأقطاب، وعدم الانجذاب في كتلتها الوطنيّة الحرجة إلى أيّ من الأقطاب الكبرى المتصارعة.
وهذا يتوقّف على مدى تماسك أبناء هذا الوطن، ومقدار مصداقيّة مكوّناتها الاجتماعيّة في الرغبة في العيش المشترك، وبناء الهويّة التي تعزّز الانتماء الوطنيّ دون أن يكون الولاء العابر للحدود والوطن مقدماً على الولاء للوطن.
طبعاً لا يمكن لأحد أن ينكر وجود الانتماءات العابرة للحدود، فسوريّة أولاً وأخيراً… وبحكم التاريخ والجغرافية بلد مسلم وجزء من العالم العربيّ.
لكنّ التحدّي بدأ بعد جلاء الاستعمار عن سوريّة، فلقد أظهر الوعي السياسيّ بعد الاستقلال تيارين أساسيّين:
1- تياراً ثوريّاً انقلابيّاً عقائديّاً تتقاسمه أيديولوجيات قوميّة واشتراكيّة يساريّة وإسلاميّة ما فوق الوطنيّة، وأحزاب عابرة للحدود ذات سيماء ريفيّة أقليّة.
2- وتيّاراً تقليديّاً شبه ليبراليّاً مكوّناً من العوائل الأرستقراطيّة الرأسماليّة في المدن، تخترقه عصبيّات جهويّة وعشائريّة ومذهبيّة، يشتمل على القوى المحافظة صاحبة النفوذ الجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ.
ولم تتجذّر الحال الوطنيّة السوريّة التي تألّفت نواتها الأساسيّة في مرحلة الكفاح ضدّ الاستعمار من أجل الاستقلال، ثمّ المرحلة الليبراليّة القصيرة التي انقلب عليها العسكر، لتنتهي بعدها الحياة السياسيّة في سوريّة تماماً.
تقول (ليزا وايدن) في كتابها (السيطرة الغامضة):
(عندما نالت سوريّة استقلالها عام 1946، كانت دولة من دون أن تكون أمّة في كثير من النواحي، فكانت كياناً سياسيّاً، من دون أن تشكّل مجتمعاً سياسيّاً).
وهذا كلام صحيح إلى حدّ كبير، فالهويّة الوطنيّة السوريّة متصدّعة وهشّة، فنحن دولة -في أصل نشأتها- ولدت بطريقة قيصريّة غير طبيعيّة من رحم الاتفاقات الاستعماريّة، واقتطعت عن مجالها الجغرافيّ والاجتماعيّ، وجاءها من الحكّام الطغاة من فخّخ النسيج الوطنيّ بالشحن الطائفيّ والإثنيّ، لذلك انهارت هذه الوشائج الوطنيّة ولم تصمد طويلاً أمام الاستهداف مع بداية الثورة، واستيقظت الانتماءات المحليّة مقابل الدولة، والانتماءات العابرة للدولة مقابل الدولة، ما دفع بالكثيرين من الباحثين إلى التشكيك في وجودها أصلاً.
ولا يغتر بعضنا بأنّ فرنسا حاولت تقسيم سوريّة إلى ستة أقاليم، وأخفقت في هذا بسبب مقاومة وممانعة الشعب السوريّ.
فحقيقة الأمر أنّ فرنسا تراجعت عن هذه الخطوة، بعد نصيحة البريطانيّين لهم بأنّ هذه الأقاليم غير قابلة للحياة بشكل مستقل، لذلك جرى التقسيم سلخ لبنان وحده من جسم سوريّة والذي لا يزال يشكل حال عدم استقرار، ولا يعبر عن حال دولة حقيقيّة بشكل من الأشكال.
أمّا بالنسبة إلى سوريّة المتبقيّة فبرغم هذه الحدود القطريّة الصامدة منذ الاحتلال الفرنسيّ إلى اليوم فإن ارتباط القرابة بين كرد سوريّة وكرد العراق وتركيا لازالت أشدّ من ارتباط الكرد بالوطن.
ولا تزال عشائر الجنوب تحافظ على وشائج القربى مع عشائر الأردن، ولايزال سكان الشمال السوريّ يشكّلون امتداداً أو جزءاً من سكان جنوب تركيا بقربات رحميّة كانوا في فترة الأعياد يتبادلون الزيارات والتهاني.
وكذلك القرابة بين العشائر على امتداد دجلة والفرات في سوريّة والعراق، ممّا يجعل من هذه الحدود حالاً سائلة، غير قابلة للصمود، ولا تهدّدها الانتماءات ما قبل الدولة فحسب.. ولا تهدّدها ظهور المحلّيّات التي قد تفضي إلى التقسيم عند غياب السلطة المركزيّة أو ضعفها فحسب..
وإنّما يضاف لها خطورة أن تصحو هذه الانتماءات العابرة للدولة في فترة انحسار وضعف السلطة التي قد تمهّد لاقتسام سوريّة بين القوى الجاذبة، بدلاً من التفكير في إعادة بناء الهويّة الوطنيّة الغائبة أصلاً من ثقافة الشعب السوريّ الذي اقترنت عنده الوطنيّة بحكم الفرد.
وتزداد هذه الخطورة عندما يكون من يعبّر عن هذه الانتماءات الإيديولوجيّة والدينيّة أو العرقيّة هو من يقوم باختطاف القوميّة أو الطائفة أو المذهب سياسيّاً، ويجعل منها متاريس وجسوراً ليعبر عليها نحو مآربه السياسيّة الضيّقة من خلال فرض نفسه، كمعبّر وممثّل عن هذه المكوّنات.
كحال (داعش) اليوم في اختطاف السُّنَّة، وحال إيران في اختطاف الشيعة، وحال حزب العمّال الكردستانيّ الانفصاليّ المختَطِف للمكوّن الكرديّ، واختطاف الطائفة العلويّة من النظام السوريّ، بعد أن أشبع الطائفيّة العلويّة بنفسيّة سلطويّة لا ترى نفسها متساويّة مع باقيّ الشعب السوريّ، في السلطة والشراكة في الوطن، وبذلك يجعل منها وبسهولة أداة طيّعة في زجّ أبنائها لقتل الشعب السوريّ، وتتحوّل إلى درعٍ واقٍ للطغيان والاستبداد.
بناء على هذه المعطيات علينا أن نحقّق أصلاً في حقيقة وجود هويّة، وانتماء وطنيّ في سوريّة، قابل للحياة، والحفاظ على سوريّة كدولة، وإن كان موجوداً فلماذا انهار سريعا وبتلك الهشاشة التي ترافقت مع بدايّة الثورة؟!..
هذا السؤال يفرض علينا التحدّي الأصعب في ظلّ الثورة السوريّة كحدث غيّر مجرى التاريخ، أن نفكّر جدّيّاً في كيفيّة بناء الهويّة الوطنيّة، وصياغة العقد الاجتماعيّ الذي يسمح لسوريّة أن تعود دولةً واحدة، في ظلّ نظام سياسيّ يكفل الحرّيّات والحقوق، ويسمح للشعب السوريّ أن يعبّر عن هويّته وانتمائه، بدون قيد أو إكراه، ويسمح للشعب السوريّ بالعيش المشترك بحريّة وكرامة، متغلّباً على الصراع الهويّاتيّ الداخليّ الذي يعصف بمكوّناته ذات التماسك الهشّ أصلاَ، فيعرّضها لخطر التقسيم القلق.
وبعيداً عن الاستقطاب الخارجيّ الذي يحاول أن يجتذب ذرّاته لتقع تحت النفوذ والسيطرة الخارجيّة، فيعرضها لخطر التقسيم.