بقلم د. وسام الدين العكلةكانت عادة العرب إرسال أطفالهم إلى الصحراء خلال مدة الرضاعة لينشؤوا شجعاناً فصحاء، وإبعادهم عن مفاسد المدينة وغيرها، وتتراوح هذه المدة ما بين سنتين إلى خمس سنوات أحياناً، يتعلم الطفل خلالها فصاحة اللسان وجلادة الجسم وربَّما فنون القتال بعد ذلك، وكانت قريش وأشراف العرب يتنافسون في اختيار المرضعات حتى إنَّ الرجل كان يفتخر برضاعته في البادية.هذه الصورة جسدها الشاعر الجاهلي “عمرو بن كلثوم التغلبي” عندما قال:(إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ … تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا)منهياً بذلك معلقته ببيتٍ من أشهر أبيات الشعر العربي التي تنبض بالحماسة والفخر والاعتزاز وبالانتماء إلى القوم. لكن بالمقابل من هذه الحماسة والعنفوان يقول آخر يائسًا:(نيام نحن في مهد الدنايا … تباغينا وأقرام قتامرضينا بالصغائر مرضعات … لأنفسنا أما آن الفطام)المعنيان المتناقضان في هذين البيتين يعكسان بشكل جلي ما كانت وما وصلت إليه حال أمتنا العربية والإسلامية من التراجع الكبير والذل الذي لحق بها خلال السنوات الأخيرة، وعجزها عن مناصرة أبنائها والوقوف إلى جانبهم في قضاياهم المصيرية من الأقصى الذي ما زالت تدنسه قوات الاحتلال بين الفينة والأخرى وتسعى إلى تقسيمه زمانياً ومكانياً، إلى اليمن الذي غاص في أوحال الحوثيين ومن خلفهم إيران الفارسية، ومن أرض الرافدين والشام وأرض الكنانة إلى تونس مروراً بليبيا الجريحة.وهذان المعنيان يعكسان بشكل أدق الحال التي وصلت إليها المعارضة السورية خلال الفترة الأخيرة من الانقسامات المبررة وغير المبررة والفشل الذريع في إدارة حتى صغائر الملفات التي تهمُّ المواطن السوري. في الوقت الذي يُقتل فيه العشرات يومياً ببراميل النظام وأسلحته الفراغية، أو خلال محاولتهم العبور إلى دول الجوار هرباً من بطش الآلة العسكرية، ومن ينجو من هؤلاء فإنَّ للبحر نصيبًا منهم خلال محاولتهم الحصول على حياة آمنة بعيداً عن الوطن.لا شكَّ أنَّ هناك أسباباً كثيرة تقف وراء فشل المعارضة السورية، منها ما هو خارجي يتعلق باختراقها أو تبعية أجزاء منها لأجندات خارجية، أو ربَّما للنظام نفسه إلى جانب تضارب المصالح الدولية والإقليمية، ومنها ما يتعلق بآليات عمل المعارضة وشخوصها وتفشي الحزبية والفئوية و(الشللية) والمصالح الفردية في أروقتها الداخلية، وهذا الكلام ينطبق على أغلب تشكيلات المعارضة السورية وعلى وجه الخصوص الائتلاف الوطني وما تبقى من الحكومة السورية المؤقتة.فالائتلاف الوطني لم يرقَ بعد إلى كونه مؤسسة سياسية تمثل شريحة لا بأس بها من الشعب السوري، ولم ترقَ الحكومة المؤقتة إلى كونها حكومة “ثورية خدمية” لمساعدة أبناء الشعب السوري في المناطق المحررة وتأمين احتياجاتهم، فالغالبية العظمى من العاملين في هاتين المؤسستين خاصة ممَّن بأيديهم مفاتيح القرار لا ينتمون إلى الثورة ويغلبون مصالحهم الشخصية والفئوية والقومية والعرقية الضيقة على المصلحة الوطنية العليا أو مصلحة الشعب أو الثورة السورية، وكل ما يهمهم هو التمسك بالكرسي والرواتب والتعويضات وبدلات الانتقال والسيارات ومتابعة مشاريعهم الخاصة دون الاكتراث لمعاناة غيرهم .لذا نجد أنَّ الانخفاض في مستوى الأداء السياسي والإداري للمعارضة السورية (الائتلاف والحكومة) نابع بالأصل من انخفاض المستوى السياسي والإداري للعاملين فيهما، لأنَّ جلَّ هؤلاء لم يسبق لهم العمل في مواقع سياسية أو دبلوماسية أو مؤسسات إدارية أو في مواقع لها صلة بكيفية اتخاذ القرار السياسي، إضافة إلى اتباعهم سياسة إبعاد المختصين ومن يملكون الخبرات وتهميشهم خوفاً على مناصبهم.إضافة إلى حالة التنافس والتزاحم السلبي بين هاتين المؤسستين (الائتلاف والحكومة المؤقتة) وكأنَّ كلّا منهما تعمل لصالح أجندة متناقضة مع الأخرى ولا يتبعان بعضهما البعض، ممَّا أدى إلى فشل واضح في إدارة أغلب الملفات المهمة، إلى جانب ما نسمعه من هنا وهناك حول عمليات الفساد الإداري والمالي المستشري في أوساطهما. فضلاً عن عدم تمكنهما حتى الآن من تحقيق وجود ملحوظ في الأراضي المحررة أو كسب ثقة أبناء هذه المناطق أو الجهات الفاعلة فيها، هذا على المستوى الداخلي.أمَّا على المستوى الدولي فالفشل كان واضحاً في كافة الملفات وفي جميع المحافل الدولية والإقليمية والعربية، والدليل على ذلك تغير بعض المواقف العربية تجاه النظام وحصول اتصالات مباشرة بين الطرفين فلم تستطع مؤسسات المعارضة تسويق نفسها كممثل لشعب يُقتل العشرات منه يومياً بالصواريخ والبراميل المتفجرة، كما لم تستطع أن تسوق لقضيتها بالشكل الصحيح في أروقة المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، والنتيجة التي وصلنا إليها بسبب هذا الفشل هي ملايين المشردين والمهجرين والغرقى والمعاقين بدون أي أفق للحل في القريب العاجل وتفاقم المعاناة بشكل يومي على كافة الأصعدة.إذاً، فشل مؤسسات المعارضة في جزء كبير منه مرتبط بالدرجة الأولى بمن تولى ولايزال بعض المفاصل المهمة في هذه المؤسسات وعدم الاعتراف بفشلهم أو فسح المجال لغيرهم، وهم يدركون تمام الإدراك عدم كفاءتهم لكن حب المال والجوع الشديد للسلطة طغى على عقولهم وأبصارهم وجعلهم يلهثون وراء مناصب واهية لا قيمة لها إلا في مخيلتهم.لكن بعد مرور نحو خمس سنوات من التجربة القاسية ألَمْ يبلغْ سن الفطام السياسي هؤلاء الصبيان، أم سيبقى الوضع على ما هو عليه خمس سنوات أخرى يستمر فيها الغلمان والصبيان بقيادة الكبار والعلماء والقادة فَيذهِبوا ما تبقى من الثورة والشعب؟!