جاد الغيث |
في الزنزانة الانفرادية عالم آخر مختلف بكل تفاصيله، هي أصغر رقعة في العالم يعيش فيها إنسان، ويقابلها القبر أصغر منها حجمًا لكنه مخصص للميت، وكلاهما الزنزانة والقبر تعيش وتموت فيهما وحيدًا.
ورغم ذلك فإن الزنزانة تساعدك على استحضار حياتك الماضية بأدق تفاصيلها لتعيشها بعمق ووعي أكبر، حينها تشعر بغصة كبيرة وفرحة متأخرة صغيرة!
ليلة أمس لم تبقَ صورة أو ذكرى، ولم تبقَ كلمة أو وجه إلا وعادوا إلى مسرح الحياة مرة أخرى.
هذا ما حدث معي بالضبط، كنت أرى الماضي بمنظار مقرب لا يخفي شيء على الإطلاق، وصارت حياتي، وهي تُستعاد مرات ومرات، كأنها تتشكل من جديد.
كنت قادرًا على أن أجمد لحظات ومشاهد معينة لفترة من الوقت لإعادة فحصها وشم روائحها ونسيان الألم عبر ضوئها الشبيه بضوء الأحلام اللطيفة، كانت تعود إلي الصور والكلمات ذاتها، كيف قِيلت، ومن قالها ومعها ابتسامة العيون وغمزها ولمزها،
متعة تُنسيك الوقت الثقيل الذي يجثم على صدرك، ينهش فيك دون أن تراه.
يضطرب الزمن من جديد، أترك صور الماضي في خيالي، وتتجه عيناي إلى الكوة الصغيرة، تفتحها يد غليظة إلى الخارج، كانت مجرد يد مشعرة، غليظة الأصابع تمتد مرتين كل يوم، في الصباح ترمي لي رغيفًا مدهونًا بشيء من الحلوى، وفي المساء ترمي رغيفًا آخر يابسًا خاويًا.
هذه اليد الخشنة صارت وسيلتي الوحيدة التي تربطني مع العالم خارج الزنزانة، وكلمة (عالم) هنا قد تبدو غريبة أو غير مناسبة، وأنا أقصد بها أوجاع المعتقلين في منفرداتهم والدهليز المرعب المليء بأصوات الأنين، وحتى الحمام والمنشفة المبللة بالقذارة والمخاط التي كان يجب علينا أن نجفف بها أجسادنا!
كان لتلك اليد القاسية أوقات ثابتة لا تتغير حين تفتح الكوة وتلقي الطعام
وتمضي دون أي كلمة.
كل أسبوع أو ربما أكثر تقودني ذات اليد وأنا معصوب العينين إلى الحمام، في الطريق وهي تمسك بساعدي بقوة وحقد يخطر في بالي سؤال: “ترى هل هي إحدى الأيدي التي اشتركت في ضربي ليلة حفلة الاستقبال؟ هل هي ذات اليد التي تكتب ما أقوله في غرفة التحقيق؟ هل هي اليد التي ستصافحني يومًا وأنا أغادر هذا الجحيم وتعتذر بلمسة حانية دون كلمات عن عمق القهر والألم الذي سببته لي؟!”
يبدو أنني تحولت إلى شخصية حالمة أو هاربة من المدينة الفاضلة، فاليد التي تملك كل هذه القسوة والملوثة بدماء الأبرياء لا يمكنها مطلقًا أن تصافح أو تعتذر.
رحت وأنا أفكر في تلك اليد أتخيل تفاصيل أكثر عن صاحبها، فأي إنسان معتقل دون خيال أو ذاكرة لا يقوى على مقاومة الزنزانة الانفرادية.
رحت أتخيل تفاصيل وجه صاحب اليد، نغمة صوته، وطوله، وعرض منكبيه، ولون عينيه، وسمرته التي أظنها شديدة، ملابسه التي أظنها قذرة أو ملوثة بدم..
قدَّرت أيضًا أنه ما بين الثلاثين والأربعين من العمر، وربما هو بسبب عناده من مواليد برج الثور، وقد يكون أكبر أخوته، وربما هو متزوج من امرأة صماء ولديه ثلاثة أولاد يفرحون بعودته إلى البيت في ساعة متأخرة ليلاً، ترى هل يقبلون يده القاسية المكسوة بالشعر التي راحت تفتح كوة الزنزانة الآن وأظنها سترمي لي رغيفًا خاويًا؟!
كم تمنيت لو أنني أرى وجه صاحب اليد، أريد أن أنظر في عينيه دون خوف لأحفظ ملامحه كما أحفظ اسمي والفاتحة، أريد أن أحمل ذلك الوجه معي إلى آخر الدنيا حين أخرج، وأحمله معي إلى تحت التراب حين أموت، لربما تتشرب ألمي وحقدي جذور شجرة ما قد تنمو فوق قبري، ولربما تثمر تلك الشجرة ويأكل من ثمرها إنسان ويتذوق المرارة والقسوة التي عانها المعتقلون في سجون الأسد.