علي سندة |
عطفًا على المقال السابق الذي وصلنا به إلى انتهاج سياسية تخريب المجتمع لدى الأسد الأب لإحكام السيطرة على الشعب كونه مغتصب للحكم ولم يأبِ من ضمير الجماعة، سنبين هنا تلك المنهجية ونتائجها، وقد قال (نيقولا ميكافيللي) من قَبل في كتابه (الأمير)، في فصل: (إخضاع الممالك التي كانت تعيش في ظل قوانينها الخاصة قبل احتلالها) “إن أهل تلك الممالك الحرة إن لم يتم إخضاعهم سيقضون على العنصر الدخيل عليهم مهما كان باسم التمرد لأجل الحرية والعودة إلى ما كانوا عليه من قوانين تحكمهم.”
والإخضاع هنا نوعان: الأول نابع من قوة الديكتاتورية، أي السيطرة على مقاليد الحكم وإبعاد المنافسين، والآخر ما نحن بصدد الحديث عنه وهو إخضاع الشعب عن طريق التخريب القيمي والقوانين الحاكمة لضميره مع استخدام القوة النافذة في الشعب لتحقيق الغاية ولجم المعارضين الذين يشعرون بالتغيير الحاصل وإنهاء محاولاتهم الإصلاحية.
فعلى الصعيد الفكري نجد أن الأسد الأب جعل الدين مُسيسًا لصالحه لتحقيق القبول في ضمير الجماعة من خلال طرق عدة: (مشاركة الأغلبية بالصلاة في المناسبات الدينية، إعداد رجال دين السلطة لإحداث التأثير ليكونوا بدلاء عن أصحاب الدين الحق، وإبعاد المصلحين وشيطنتهم مع منهجهم باسم العمالة والتبعية للخارج، واقتصار دور المسجد على أوقات الصلاة وفتحه وإغلاقه ضمنها فقط..) والنتيجة عبر الزمن تفريغ الدين من مضمونه وربطه بالروحانيات، لتغدو أسمى أمنيات المتعبدين تمني لقاء الله فقط وترك الدولة لمن يديرها والتحذير من الدخول في السياسة ووصفها بالنجاسة.
أما تعليميًا فقد تم استبدال المناهج السابقة لتدجين جيل متشبع بالأفكار والمبادئ التي ستنافس ما يتلقاه في بيئته وأسرته، فمدرسة البعث تبدأ من الطلائع إلى الانتساب للحزب إجبارًا إلى اتحاد شبيبة الثورة لترافق الفرد من الطفولة إلى الكهولة، والنتيجة جيل جاهل بهويته ومصدر أخلاقه وقيمه.
وأمَّا إعلاميًا فالأمر مرتبط بالديكتاتورية بشكل مباشر من خلال القضاء على كل ما يخالف سياسية البعث، فتم إنهاء كل الصحف المخالفة لجعل المجتمع أمام مصدر واحد في التأثير اليومي وتصدير كل الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية من خلالها، والنتيجة صناعة جماهير يسهل قيادتها، وثمة فرق بين مفهوم الجماهير والشعب.
وأمَّا ثقافيًا فتجلى الأمر بخلق قدوات زائفة (تبدأ من الملابس المخالفة لثقافة المجتمع العامة، وتنتهي وبالتدخل في كل تصرفات الفرد) والنتيجة هوس بالموضة لتوليد ثقافة القطيع، وكذلك خلق بطولات زائفة (حرب تشرين، أعياد البعث كافة..)
وأما على صعيد بناء الدولة فالأمر كان ببنائها على أرضية مخابراتية، وسن تشريعات غير أخلاقية لا تراعي قيم المجتمع التي تربى عليها الفرد، كسلب حقوق الآخرين عن طريق قانون الإيجار بالتقادم وغيره، والنتيجة فقدان ثقة الفرد بالقانون والدولة بشكل عام.
وأما على صعيد الحياة فكان التفكك أساس العائلة لتخريب المجتمع، والنتيجة ضعف الولاء للوطن وشتمه وعدم الانتماء له وتمني الهجرة، وكذلك تكريس الطائفية في كل مفاصل الدولة والنتيجة كراهية وانقسامات.
بتلك الحرب على كل ما هو ذو قيمة في ضمير الفرد السوري، تم التطويع وانتشرت ثقافة: “اعمل لنفسك، يلي بتزوج أمي بقلو يا عمي، امشِ الحيط الحيط وقول يارب السترة، إذا شفته عبغرق عطية دفشة، طُبّو مالك أكرم من ربه، إلك بحالك وبس، ارشِ بتمشي..” والنتيجة في الصحوة انقسامات بين السوريين وقتل فيما بينهم وانتشار مقولات: “إذا راح النظام ما رح يجينا أحسن منه، الأسد أو نحرق البلد، البعث طريقنا وديننا.. وغيرها”
إن تلك الحرب الصامتة على منظومة المجتمع كانت تُدار باسم شماعة الإنسانية لأجل التقدم، وهكذا سُوق لها عربيًا ودوليًا، ولأن القيم لا تُنسى مهما شرَّقت وغرَّبت الجماعة ومُورس عليها التأثير، اندلعت الثورة لتصحيح المسار بعد عقود من الزمن، فكانت الحرب عليها بشماعة (الإرهاب)، وقد يتم الدمج بين الإنسانية والإرهاب في تخريب القيم والأخلاق.
أخيرًا إن لم نكن حرَّاسًا على القيم ونواجه مُخربيها منذ البداية كيلا يستشري التخريب في كل المفاصل، سنصبح ضحايا القيم مرة أخرى لعقود قادمة، فمدخل الإنسانية الحالي من بوابته الحرية، ومدخل الإرهاب من بوابة ربطه بالدين مصدر القيم الأساسي لتخريب المجتمع، سيتكرران ببعثية جديدة بغض النظر عن منفذيها.