نور القدور |
ما أشبهها بتمثالِ الحرية! ربما لذراعها الأيمن المشدود نحو السماء وباطن كفها القابضُ على شعلة انطفأت للتو، أو ربما لذراعها الأيسر الذي بدا كأنه يعربد بمن منحها يومَ ولادَته الأمومة، وربما لقطعة القماش الفضفاضة التي أُلقيت عليها فسترتها وأبقت على رأسها شامخًا، أو لخصلة شعرها الطويلة المستلقية على كتفها لتصرح علنًا بأنوثتها، في الحقيقة إن كلا التمثالين الخاليين من الروح، قادران على إيحاء المعاني حدّ البلاغة، وكلاهما من فعل البشر، لكن وجه الاختلاف أنّ التمثال ذاك منتصبًا في سماء جزيرة الحرية في نيويورك، وهذا التمثال متفحم صُلب ملقى على أرض صرخت لنيل الحرية فوَأدوها، لن يزورَ هذا الجسد الصلدُ المنحوت بألسنة النيران كتمثال الحرية ملايين الناس قط، إنما ثلاثة أطفال سيكبرون عامًا بعد عام ويقصدون المزار النائي ذاته ليذكرهم أنهم عاشوا أيتامًا.
ما أقوى تعبير ملامح تلك الجثة الهامدة على الألم! ما أقدرها رغم سكونها على اختراق ضجة ما أحدثه الانفجار من هول بين الناس، تمكن الموت من عينها اليسرى فأذابها، وعجزَ إغلاق الأخرى التي انطفأت على وقع احتضار طفلها المتفحم بحضنها، أشاحت نظرها عنه آخر لحظة عندما أدركت عجزها عن إخماد نارٍ التهمت جسدها ومُضغة قلبها معاً ًقاصدة رب السماء، فأرخت يدها بجنبه ليرحلا سويًا، تفحمت جثة الطفل كأمه، تراه ساكنًا، تتجهُ كل ملامحه صوب والدته كأنه ينشدها تخفيف ألمه كعادتها، تروي أصابعه الصغيرة المنكمشة، إن تأملتها، سنينًا من الألم الطويلة، يا الله كم عرجت صرخاتٌ أدراجَ السماء بذلك اليوم وانطفأت؟ كم أنّت أرواح في ذلك اليوم؟ مالا يقل عن اثنين وأربعين شخصًا شاركوا (صبرية) وطفلها لحظات الاحتضار، ولا يزال أكثر من خمسين آخرين يحاربون طعنات الموت للآن، وما أدرنا إلى متى سيصمدون؟ كل الذي نعلمه أن تاريخ الثامن والعشرين من نيسان الماضي أنهى حياة العشرات في عفرين إثر انفجار صهريج مفخخ، غيرَ مسار حياة الكثيرين ممَّن لم يحالفهم حظ الراحة الأبدية، سيجبرون على التعايش من الآن مع التشوهات، مع المراهم والمرممات، سيصبح جلُ إنجازاتهم التصالح مع صورة وجههم أمام المرآة، أما من رمتهم أقدارهم بعيدًا عن لهيب الانفجار، فندبات الفقد ستكوي أفئدتهم شوقًا لأحبتهم إلى يوم يبعثون.
اقرأ أيضاً: الأكراد يحتضنون 200 ألف من إخوانهم النازحين إلى عفرين وحقيقة علاقتهم مع العرب
أعود إلى صبرية التي اختصرت حكاية كل من قُتلوا بذاك اليوم، سيصعب على مَن لم يرَ صورة جثتها، فَهم أوجه الشبه بينها وبين تمثال الحرية، فالكثيرون يعدُّون نشر صورة امرأة مكشوفة الرأس والجسد وإن كان محترقًا عورة! تلك الجثة كانت (لصبرية) التي كان لها من اسمها نصيب كبير، أرملة عشرينية قضى زوجها منذ أربعة سنوات في القصف على بلدة (الهبيط) حملت أطفالها الأربعة كمن يحمل على ظهره حقيبة سفر ونزحت إلى مدينة (عفرين) لتكافح في طريق ما تبقى من عائلتها وتكون لهم أمًا وأبًا، لكن أذرع الشر لم تشبع، عادوا ليشربوا دماء مَن فروا مِن الموت بطرق اكثر وحشية، تُرى من يقوى ضميره على ذبح صوت بائع متجول يطوي الشوارع ليل نهار ليطعم أولاده؟ هل تلبّس الشيطان قلوبهم لدرجة أن يغيروا طقوس عيد أطفالٍ كان من المفترض أن يرتدوا ثيابًا جديدة ويقصدون الحدائق والألعاب، إلى عيد أطفالٍ سيتجهون فيه حاملين يتمهم في يد، والريحان باليد الأخرى، ليعايدوا أمهاتهم أو آباءهم في المقابر؟