يُعدُّ الصراع على إعادة تشكيل الهوية الجديدة للمجتمع السوري أحد أهم التحديات التي تواجه هذا المجتمع ومثقفيه بوصفهم حراس للثقافة ببعديها (المرجعي العقائدي، والعرفي السلوكي)، التي تشكل بدورها الهوية الجامعة وبؤرة الانتماء الأصيلة لهذا الشعب.
الشباب والمرأة في هذا الإطار هم الأكثر استهدافًا، وربما سيكون هذا المقال هو الجزء الثالث والأخير للمقالين السابقين، في محاولة لصياغة صورة كاملة للمقدمات التي تمَّت الإشارة إليها فيما سبق، لاسيما أن الشباب والمرأة يشكلان المستقبل الحتمي للبلاد الذي سيصيغ رؤية المجتمع وثقافته الجديدة عبر اللاوعي والوعي الذي شكلته تجربة قاسية وأحداث عظيمة تركت قناعاتٍ وآثارًا وندوبًا واضحة وراسخة في عقلية هذه الفئة المهمة، ولم تلقن كتعاليم، كما في الثقافة السائدة التي نشأنا عليها نحن، والتي لم تخضع لاختبارات كافية تجعل منها عقائد قويمة وثابتة في نفوس النشء الجديد، والمرأة المهمشة.
وإن ما يجري حولنا من أحداث لا يتشكل بطريقة عفوية ضمن السيرورة التاريخية الطبيعية التي تحمل الثقافة وقيمها وتضمن تطورها وتفاعلها عبر الأجيال، وإنما تفعل فيه جميع القوى السائدة اليوم فعلها العولمي الواضح الذي يريد محو الأثر التاريخي والحضاري العظيم الذي تنتمي له هذه الأمة، لصالح تمكين ثقافات أخرى تغيّر بُوصلة الانتماء والانشداه الحضاري المتشبثة بالجذور تجاه قيم ما بعد الحداثة والعالم الجديد وبوتقة العالمية الواحدة والمعاصرة المستقبلية، التي يتم من خلالها إلغاء شخصية حضارية نافذة وقوية ومنافسة في مقابل صناعة موجة بشرية فتية هائلة من الأتباع بأقل التكاليف الممكنة.
هذا الأمر يتم بأساليب متعددة في مقدمتها الإعلام بأشكاله المختلفة، والدراما والسينما والمسرح والموسيقا والشعر والأغنية والفنون بمختلف أنواعها بما في ذلك أساليب العمارة الحديثة ونظريات الهندسة، والعمل على تغيير طرائق وأنماط التفكير عبر الطروحات المشوَّهة التي تحملها الأنشطة العبثية الكثيرة التي تقوم بها العديد من المنظمات (الإنسانية)، ومحاولة إحداث القطيعة مع التاريخ بحجج الواقعية، وعدم ملائمة الدرس التاريخي للظروف الراهنة، والتدخلات السياسية في صياغة التاريخ، والتعلق السلبي بالإرث القديم الذي يقوم على حتمية الخلاص.
وما تتضمنه تلك المحاولة من هدم للرموز والقدوات والبطولات التاريخية الملهمة، فضلاً عن عرقلة هذه الحجج والمنهجية القائمة عليها لبناء أي رمز أو قدوة جديدة في إطار ديالكتيك النقد المحموم تجاه كل شيء، والغرق عميقًا في الفلسفات النظرية والتنظيرية التي تهمل صناعة النموذج الحضاري للأمة في مقابل الإشارة إلى النماذج الحضارية الرائجة والسائدة اليوم، على أنها منهجيات ونماذج قابلة للاتباع والاقتداء وإعادة التدوير، في الوقت الذي بدأت فيه هذه المنهجيات نفسها بالأفول والتقهقر في بلاد المنشأ.
ورغم أحقيّة بعض الطروحات المتعلقة بالإرث الحضاري والتاريخي والفهم السلبي له، إلَّا أن طريقة التعامل النسفية مع هذا الأمر تعقد المشكلة بدلاً من أن تسهم في حلّها، ورغم أهمية الواقعية في التعاطي مع الظروف الراهنة، إلا أن تجاهل مقومات الهوية والانتماء والمرجعية للشعوب تجعل هذا التعاطي عقيمًا؛ لأن محركاته العملية غير موجودة في ثقافة أبناء هذه الأمة.
وبالتالي فالذين يظنون أنهم يخضون معركة التحديث واللحاق بالغرب بنية حسنة، هم أمام تحديان كبيران، الأول يتمثل في خلق الهوية الجديدة، والآخر في إعادة إنتاج السلوكيات والثقافة المتعلقة بها في جانبها التطبيقي الذي يحتاج أجيالًا متلاحقة من التدجين الفكري والعملي.
وإن المعركة الأشد خطورة في الحفاظ على الهوية هي مواجهة مفاهيم العولمة الاجتماعية بالدرجة الأولى، التي بدأت تُعيد صياغة العلاقات والتفاهمات داخل الأسرة الواحدة، وبدأت تنمِّط تلك العلاقات على الطريقة الغربية، التي تقدس الحالة الفردية في مقابل الجماعة، وتلغي أهمية المجتمع مقابل المكاسب الذاتية للفرد، وليس أدلَّ على ذلك من انتشار مصطلحات التمرد والاستقلال المادي والتذمر من الحالة الوظيفية والخطاب الفارغ باسم الحريات الذي يتجاوز حدود الممكن في مجتمعاتنا ويؤدي إلى تصدعها وانقسامها ويثير النعرات الطائفية والعرقية بدلاً من علاجها، والتخلي عن الاهتمام بتعلم اللغة العربية وتعويمها واستبدالها بالمحكيات المحلية، والتغني بالغربة والأوطان الجديدة، والدعوة إلى الإلحاد وهدم القيم وإعادة بناء الأخلاق بعيدًا عن الحالة الدينية والإيمانية، ضمن أنظمة الرقابة البشرية!!
وفي مواجهة ذلك نحتاج الكثير من التوازن والعقلانية والتمهل في تلقف كل ما نتعرض له اليوم من إيديولوجيات ونظريات وفلسفات جديدة تريد العبث بالهوية والانتماء والشخصية الحضارية التي ننتمي لها، والتي تمثل أحد أهم أبعاد الوجود وضروراته كأمة متفردة، وإن محاولة فرض أي هويات جديدة لا تنتمي لهذه الأمة ستخلق صراعات بينية قادرة على إفنائها ذاتيًا، وفي أحسن الأحوال صراعات تصهر كل مجموعة منها في ثقافة جديدة وافدة تشكل الانتماء الجديد لهذه المجموعة أو تلك.
بدلاً من ذلك يجب العمل على إعادة إحياء الهوية العميقة في نفوس أبناء وشعوب المنطقة كافة، التي لا تتعارض مع إبراز الهويات المحلية والإقليمية وإنما تتكامل معها في خلق النسيج المتماسك للهوية الحضارية المشتركة والعظيمة لأبناء هذه المنطقة وشعوبها المتنوعة، والعمل أيضًا على إعادة توحيد هذه الشعوب خلف رسالتها الوجودية، التي تشكِّل غاياتها المستقبلية، وإعادة إطلاق المحركات الكامنة داخل وجدان هذه الشعوب لاسترداد قيمها الحضارية الخالدة وقوتها الداخلية، بحيث تعود كحضارة فاعلة ومنافسة لها احترامها ومقوماتها المميزة في عالم اليوم والمستقبل القريب.
المدير العام | أحمد وديع العبسي