بقلم : رئيس التحريرفجائعُ الدَّهرِ أنواعٌ منوَّعةٌ وللزَّمانِ مسرَّاتٌ وأحزانُ( أبو البقاء الرندي )في هذا اليوم من كل سنة تلبس مدينة غرناطة اللباس الأندلسي، وتقف مطلّةً على مضيق جبل طارق، تستشرف أحفادها المسلمين الذين سيأتون من المغرب، تفتّش في الوجوه القادمة عن رجلٍ يحمل همّة الأمويين ومجدهم، وعن طارقٍ الذي صار مقبض سيفه جزءًا من يده، وعن موسى بن نصير الذي ينبض بالشباب ويضج بالعنفوان، ويضع خطّة الالتفاف على القسطنطينية من الغرب بعد فتح أوروبة وهو في السبعينات من عمره، الرجل الذي بلغ الشيخوخة وهو في ساحات الجهاد، فلم يطلب من الوليد بن عبد الملك أن يحيله إلى التقاعد.انتظرت غرناطة اليتيمة طويلًا، لكنها لم تر غير الصلبان والعري، ولم تسمع غير الكلمات الأعجمية، وغير أناتها وهديرِ الأمواج التي تتكسر على أطراف إزارها، فعادت إلى أحزانها كالأم التي ملّت من انتظار ولدها المفقود.في هذا اليوم من كل سنة يحتفل النصارى في إسبانية بذكرى اغتصاب الأندلس المسلمة، فيجولون الشوارع ويشعلون الشموع ويحييون الملك الدون فرناندو الخامس وإيزابيلا ملكة قشتالة الذيْن خلعا الحجاب عن غرناطة وعلّقا على صدرها صليبًا ذهبيًا، وذبحا الحياء على جسدها أمام مرأى الحاضرين، كما فعل الأمريكيون في العراق واليهود في فلسطين والزعماء العرب في مغتصباتهم ومستوطناتهم.في مثل هذه الأيام قبل 523 سنة أهرق أبو عبد الله الصغير ماء وجهه على أقدام فرناندو وإيزابيلا، فقلده طواغيت العرب الذين لم يتركوا رِجْلًا صليبيةً إلا وقبلوها، ولم يدعوا حذاءً يهوديًا إلا ومسحوه ووضعوه على رؤوسهم. أخرج الصغير كلَّ ما في جيبه من صكوك ومفاتيح وانحنى صاغرًا وقدَّم غرناطة هديةً إلى الحبيبين الملكين الكاثوليكيين، ليقضيا فيها قرون العسل، فأخذا الهدية التي أجبروه عليها، ولم يدعواه إلى حفلة الزفاف التي طويت فيها راية التوحيد في الأندلس وتحولت المساجد إلى كنائس.دخل النصارى قصر الحمراء بعد التسليم وعلقوا الصليب على برج القصر الأعلى، والأمكنةُ من حولهم تُحدّق في نفسها وتمرّر في ذهنها أسماء الفاتحين والقادة ( الوليد بن عبد الملك، موسى بن نصير، طارق بن زياد، عبد العزيز بن موسى، السمح بن مالك الخولاني، عبد الرحمن الغافقي، عبد الرحمن الداخل، عبد الرحمن الأوسط، عبد الرحمن الناصر، يوسف بن تاشفين، يعقوب المنصور الموحدي، يعقوب المنصور المريني.. )، والآياتُ القرآنيةُ المحفورة في ألواح الرخام تراقب المشهد وتتفكر في سنة الله في أرضه، وعبارةُ ( لا غالبَ إلا الله ) تحدق في الوجوه الغريبة كما تحدق دمشق اليوم في مغتصبيها من المجوس والروافض.خرج أبو عبد الله الصغير وهو يحمل على كتفه ثمانمائة وخمس سنين من الوجود الإسلامي في الأندلس، فبللت دموعه لحيته، وسمع أمه تقول له :اِبكِ مثلَ النساءِ ملكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثلَ الرجالِأيها الإخوة القراء..إننا لا نلقي الضوء على ذكرى سقوط الأندلس لنبكي ونستبكي، ولكن لنقرأ التاريخ ونأخذ العبر ونستوعب الدروس ونستعرض التجارب ، ونقف عند أسباب الصعود والهبوط، إننا بحاجة إلى قراءة تاريخنا، لأن الأمة التي تحرق تاريخها في الشتاء لن تستقبل بعده الربيع. “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”