ترجمة: ضرار الخضر
لقد كانت رائحة اللحم البشري المحترق هي ما علقت بذاكرة عمر الشوجري لسنوات بعد أن خرج من أسوء السجون السورية سمعة.
يتذكر عمر الذي يبلغ عمره 21 سنة مساء يوم في تشرين الثاني أو أوائل سنة 2014 على وجه الخصوص، فهو ليس متأكداً إذ أن معرفة الوقت في تلك الزنزانة المظلمة القذرة أمر في غاية الصعوبة، ويقول السيد شوجري للتلغراف في السويد بعد أن أصبح طالباً للجوء في هذا البلد: “كان ثمة نار ضخمة ذاك اليوم، لكن رائحتها ليست كأي نار عادية، وقال لنا حراس السجن إن النار بسبب ماس كهربائي رغم أن الكهرباء كانت مقطوعة عن معظم أرجاء السجن مما جعلنا نرتاب، وكانت الرائحة لاذعة تشبه رائحة اللحم البشري أو الشعر المحروق”.
وأضاف: “كان ثمة الكثير من الجثث كل أسبوع ويجب التخلص منها تباعاً، مما جعلني أشك في أنهم يبعثون بهم إلى محرقة للجثث”.
واحتفظ السيد شوجري بشكوكه لعدة سنوات قبل أن يتأكد منها الشهر الفائت، فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن النظام السوري أحرق ويحرق جثث آلاف السجناء الذين قتلهم في سجن صيدنايا؛ الذي يقع خارج دمشق، في محاولة للتغطية على حجم جرائم القتل التي يرتكبها، ولإخفاء الدليل الذي يمكن أن يستخدم في محاكمة لجرائم الحرب.
بعض المسؤولين ساووا بين هذا وبين الهولوكوست النازية في ألمانيا، وقال نيكي هالي السفير الأمريكي إلى الأمم المتحدة: “إن محاولة بشار الأسد إخفاء جرائمه الكبرى بالمحرقة تذكّرنا بأسوأ انتهاكات حقوق الإنسان في القرن العشرين”.
وتعتقد وزارة الخارجية أن المحرقة بنيت داخل مجمع السجن بداية سنة 2013، حيث أظهرت صور الأقمار الصناعية المباني داخل المجمع مغطاة بالثلج عدا واحداً مما يعني أنه كان مصدراً لحرارة شديدة، وحسب ستارت جونز مساعد وزير الخارجية الأمريكي: “يمكن أي يؤكد هذا أنها محرقة”.
وأضاف مسؤولون إن المدخنة على سطح ذلك المبنى والدخان المنبعث منها يؤكدان أن ذلك المكان ما هو إلا محرقة.
وفنّدت الحكومة السورية هذه الاتهامات قائلة إن هذه الطريقة في التخلص من الجثث “غير إسلامية”.
فحرق الجثث يعتبر حراماً في الاسلام، إذ تنص التعاليم الإسلامية على أن جثة المتوفى يجب أن تغسل وتكفن ويصلى عليها ثم تدفن في الأرض ليزورها الأقارب، وأي طريقة أخرى بمن فيها الحرق تعتبر إثماً كبيراً.
بات سجن صيدنايا يعرف بالمسلخ البشري، حيث يسود التعذيب والتجويع والازدحام الشديد، مما جعل الأمم المتحدة تصفه بأنه مكان للإبادة.
لقد اختفى الآلاف في غياهب السجن منذ اندلاع الثورة ضد بشار الأسد عام 2011، كما أن أكثر من 17000 آخرين ماتوا في المعتقلات المنتشرة عبر البلاد بين آذار 2011 وتشرين الثاني سنة 2015، حسب منظمة العفو الدولية، لكن أعداداً كبيرة لا تزال في عداد المفقودين مما يعني أن الصورة قد تكون أبشع بكثير.
كان عُمْرُ السيد شوجري 17 سنة عندما اعتقل من منزله في مدينة طرطوس الساحلية في تشرين الأول سنة 2012، حيث كان يشارك في مظاهرات ضد الحكومة لكن يبدو أن أجهزة الأمن انتقته بالذات بسبب اسمه الذي يدل على أنه مسلم سني، وقضى ثلاث سنوات في عشر سجون مختلفة، منها عشرة شهور في زنزانة بسجن صيدنايا عرضها سبعة أقدام وكذلك طولها مع ما يزيد على 11 شخصاً آخرين، دون نوافذ حيث كان الممر يضاء ببعض الشموع فقط، وهكذا لم يرى السيد شوجري من حوله سوى القليل.
ولم يكونوا يسمحون لهم بالتحدث إلى الحراس مباشرة أو النظر في أعينهم، وضُرِب مرات لا حصر لها، لكنه رأى آخرين يُعذّبون بطريقة أسوء، فقد كان الحراس يأمرونهم بقتل بعضهم، وإن رفضوا يهددونهم بقتل أفراد من عائلاتهم من الموجودين في السجن بدلاً منهم، وقضى عمر في إحدى المرات عشرة أيام دون طعام أو ماء مما جعل البعض يشربون بولهم.
وعندما خرج من السجن في حزيران 2015 كان وزنه خمسة وثلاثون كيلو غراماً فقط وفقد كل شعره.
السيد شوجري والعديد من السجناء السابقين الآخرين تحدثوا للتلغراف أنهم رأوا عشرات الجثث أثناء اعتقالهم، وبعضهم مات جوعاً وآخرون ماتوا بسبب التعذيب الفظيع وآخرون بسبب المرض.
قال شخص آخر مستخدماً الاسم المستعار أبو خالد وعمره 43 سنة من مدينة حماة: “إنه يتذكر أنهم طلبوا منه في ربيع سنة 2013 المساعدة للتخلص من 15 جثة”، وأضاف: “قبل أن يأخذوني مع معتقلين آخرين إلى صيدنايا طلب منا ضابط شرطة المساعدة لوضع الجثث في أكياس بلاستيكية، وبعدها وصلنا إلى مشفى تشرين العسكري قرب دمشق حيث أن 17 شخصاً كانت حالتهم تتطلب العلاج في المشفى لكن اثنان منا فقط عادا أحياء، ورغم أننا كلنا كنا مصابين بألم في معداتنا إلا الآخرين الذين تعرضوا إلى إصابات بسبب التعذيب لم ينجوا”، وكان يَعْتَقِدُ أن الجثث قد ألقيت في المحرقة، وقال إن عدد القتلى داخل السجن بدأ بالارتفاع في 2013 عندما بدأ النظام بتنفيذ حملة اعتقالات واسعة ضد ناشطي المعارضة وأي شخص يبدو متعاطفاً معهم.
وقال تقرير صادر عن لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة السنة الماضية نقلاً عن أحد المنشقين عن وكالة المخابرات قوله: “إن الضباط أُمِروا باعتقال المتظاهرين الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 16 إلى 40 عاماً”.
وقال العديد من المعتقلين السابقين إنه منذ عام 2013 لم يخرج إلا عدد قليل من السجناء في صيدنايا ليتمكنوا من الإدلاء بشهاداتهم، وقال أحمد الأحمد الطيار الحلبي السابق والذي انشق عن النظام ثم اعتُقِل وأمضى 13 عاماً في السجن قبل أن يخرج عام 2011: “إن عدد الذين خرجوا من السجن أحياء منذ ذاك الوقت يعدون على الأصابع، معظم هؤلاء الذين شموا أو شهدوا أي شيء يتعلق بالمحرقة كانوا في الحبس الانفرادي بانتظار أن يعدموا، على الأرجح لقد ماتوا منذ مدة طويلة وماتت الحقيقة معهم”.
ربما يكون جبل الوثائق عن جرائم نظام الأسد خلال ست سنوات من الحرب أكبر من وثائق أي صراع آخر قبله، لكن الجناة ما زالوا طليقين وليس ثمة طريق واضح لتقديم الأدلة أمام المحكمة.
ويحاول السيد أحمد تشكيل تجمع من المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا لتبادل المعلومات حول الجرائم بحق الإنسانية يمكن أن يكونوا شهدوها.
ويقول السيد أحمد رغم عدم تفاؤله: “أتمنى أن يؤدي هذه إلى عقابهم”.
صحيفة التلغراف
الكاتبان: جوسي إنسور ولونا صفوان