جاد الغيث |
لم يبقَ معي سوى ظلي وحقيبة عسكرية صغيرة على ظهري يعادل وزنها أوجاع عالم لا حدود له، ومعي أيضًا أحزان وآلام مازلت أعيشها.
نهرب من عذاب إلى جحيم لا تحتمله حتى الجبال المحيطة بنا، إلى هاوية من نار تشتعل أكثر يومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة.
لا أعرف ماذا أسمي المكان الذي كنا فيه مؤخرًا؟! في وسائل الإعلام ينقلون أخباره على أنه (الباغوز) وفي الواقع كان المحرقة، كان مكانًا للإبادة الجماعية دون رحمة، النار المستعرة فيه أكلت البشر والحجر! (الباغوز) مكان الذعر والجحيم، مكان القبر الجماعي لأطفال ونساء ومُسنين لا يعرفون لمَ يقتلون!
لن أخبركم عن اسمي، فأنا مجرد رقم مجهول يحمل جسد طفل، ولن أخبركم عن عمري لأنني طفل بعُمر رجل طحنته السنين، ولا يهم ما هو شعوري، ولا يهم من أكون أنا، لأنني ربما كنت سأتحول، كأقراني من الأطفال، إلى جثة متفحمة جراء الجحيم الذي كنَّا فيه، فليس مُهمًا إن كنت رقمًا أو طفلاً أو شجرةً أو حجرًا…
ربما نجوت بمعجزة لأن في العمر بقية، نجوت حتى أروي لكم مواقف ومشاعر تخرُّ لها الجبال.
في تلك البُقعة الصغيرة التي احتفلوا بتطهيرها من الإرهاب منذ أيام، كانت جهنم الحياة الدنيا تستعر فينا، كنا جميعًا وقودها دون استثناء جراء تلك الصواريخ التي كانت ذكية على النظام السوري حين قصفته وغبية علينا لم تُميز شخصًا عن آخر، إذ لا فرق بين الإرهابي والطفل والمرأة والمُسن الكبير، الكل بالمحرقة سواء ولا عاصم اليوم من جحيم التحالف سوى الله الذي نجاني لأحكي لكم.
إنني طفل بريء لا أعرف (داعش) لكن ذنبي الوحيد الذي لا يُغتفر أن والدي (داعشي) والآن أدفع فاتورة إرهاب أبي من طفولتي المُعذبة التي أعيشها، فاتورة باهظة الثمن كان ثمن جزء منها قبل أيام حياة أمي وأختي الصغيرة، وقبلها حياة جُلّ الأطفال الذين أعرفهم، كانت آخر مرة رأيتهم فيها مُتوسِّدين الأرض وقد لبسوا لونهم الأسود المتفحم إلى جانب أهلهم جراء قصفٍ (بالنابلم) المحرم دوليًا، لكن لا تتعجبوا ولا تحزنوا لأن الموت كان أمنية كلّ طفل وأم ومُسن ومصاب ومريض؛ كي يتخلصوا من الجحيم الذي كانوا فيه.
قبل خروجي من الجحيم شاهدت عيناي أسوأ صورة في حياتي، صورة لن تُمحى من ذاكرتي ولو عشت ألف عام!
كان الوقت ليلاً والبرد يقطع الأوصال، لا سقف بيت يحمينا، ولا دفء يجمعنا، ولا طعام، ولا ماء، ولا فراش، ولا شيء يحمينا من الشظايا وحمم القذائف التي كانت تُلقيها طائرات التحالف، وفجأة أمام عيني حولت القذيفة التي سقطت جسدَ والدي إلى أشلاء صغيرة، لقد صار أبي وقتها قطعًا مبعثرة من لحم ودم، ليلتحق بأمي وأختي الرضيعة المتفحمتين، لأصبح وحيدًا دون عائلة أو قريب.
قد تسألون أنفسكم لماذا أحمل حذاء أبي؟ ربما لأنه لم يبقَ لي منه سوى (بوطه العسكري).
بعض الأطفال يحتفظون بذكريات جميلة مع آبائهم، أما أنا فلا أملك مع أبي ذكريات حلوة، فمنذ أن وعيت على الحياة أعيش مع القصف والذعر والهرب من مكان إلى مكان، وهذا آخر مكان ألجأ إليه حاليًا بعد خروجي من الجحيم، ولا أعرف ما هو مصيري بعد فقدي كل عائلتي، فاليوم تزر وازرة وزر أخرى.