لطالما تساءلت في نفسي، كيف يمكن للإنسان أن يتخلى في لحظة من لحظات حياته عن عقيدة كان يعتقدها بل ويدافع عنها، كيف له أن ينسف مفاهيم كاملة قد ترسخت على مدى الأجيال لمجرد أنه قد تنبه، حسب زعمه، إلى أنها منافية للعقل والمنطق؟ هل الأمر هين إلى هذه الدرجة ويحدث هكذا بلا مقدمات وبلا أسباب؟
إنه لأمر كبير أن ينقلب الإنسان من حياة إلى حياة تناقضها في الشكل والمضمون، فهذا البون الشاسع في التحول يذكرني بمن انقلب من حياة الغنى الفاره، إلى الفقر المدقع، والعكس صحيح.
وكيلا أذهب بعيدًا، فقد رأيت في محيطي أشخاصًا أعرفهم ممَّن يدخلون في إطار هذه الظاهرة الشائعة، حاولت أن أتأمل حياتهم السابقة كيف كانوا وكيف هم الآن، حاولت أن أتعمق قليلاً وخاصة في الفترة التي أعلن كل منهم عن تخليه عن أمر كان يعتنقه، ما الذي طرأ عليهم أو حل بهم، في النهاية توصلت إلى أن هناك نوعان من الأسباب التي أدت بهم إلى هذه الحال، أولهما أسباب ظاهرية، يمر بها الجميع لكن تختلف ردة فعل كل شخص تجاهها حسب المبادئ والمعتقدات التي قد بنى عليها حياته، فتكون هذه الأسباب أحيانًا سببًا في الارتقاء أو الانهيار.
هذا النوع من الأسباب يتشكل من الظروف الصعبة، كموت شخص عزيز، أو طلاق الأبوين، أو فقدان جميع الأملاك، أو ضغط عائلي أو مجتمعي، أو حرب أو ظلم، إلى آخره من الظروف التي يقاسيها البشر في يومنا هذا على وجه الخصوص.
أما النوع الثاني من الأسباب وهو الأخطر والأعمق برأيي، فهو لا يظهر للملأ، بل يكون مجموعة من المفاهيم المعقدة التي تراكمت عبر الزمن، فتنفجر كالقنبلة لحظة يمر الإنسان بظروف صعبة وقاسية، وأرى أن هذه الأسباب تعود نشأتها إلى خلل في العقيدة نفسها، أو في تصوره عنها، ويمكن ذكر ثلاثة أسباب رئيسة منها نسقطها على مثالين بسيطين، فقد انتشرت في الفترة الأخيرة موجة خلع الحجاب، و موجة ترك دين الإسلام والانتقاص من شأنه، هاتان الظاهرتان تخفيان وراءهما العديد من الأسباب العميقة.
أولها العقيدة المشوشة لدى غالب هذه الفئة من الأشخاص، فإنني على يقين تام أن من يعتنق عقيدة الإسلام عن فهم بمقاصدها وأهميتها، ما ضاع أو خاب، فهي كالمحجة البيضاء يستنير بها في ظلمات الحياة، ولنا في صحب الرسول خير مثال، فما لاقوه من عذاب وألم في سبيل هذه العقيدة كان من الممكن أن يكون سببًا كبيرًا في ارتدادهم عن الدين، لكن على النقيض، فهي قد زادتهم إيمانًا وصبرًا ويقينًا، وكما أنهم بشر، نحن أيضًا بشر فتأثيرها لن يكون مختلفًا ألبتة بيننا وبينهم إن كانت مقاصدنا وتطلعاتنا مثلهم، وفهمناها كما فهموها هم.
أما ثانيهما فهو الروح العطشى، فكما أن الجسد بحاجة إلى غذاء فالروح أيضًا بحاجة إلى غذاء يشبعها ويغنيها عن التخبط والضياع، فمن كان يشبع روحه من إيمانه بالله، لا ينفك يذكره صباح مساء، ويُحصّن نفسه ويوطدها عن يقين وليس اتباعًا وتقليدًا للآخرين، فكيف للشك أن يساوره أو للقنوط أن يدخل إليه؟
أما ثالث الأسباب وآخرها فهو غياب الصحبة الصالحة وحضور الصحبة الفاسدة، فماذا نتوقع ممَّن كان يحاول التقرب من الله والتمسك بدينه وتعاليمه، وأقرب صحبه يجاهرون بالمعاصي، ويعيثون فسادًا بالعقول والقلوب، ويحاسبون الله على كل أمر يصيبهم؟ هل نتوقع أن يبقى على الحق ومن حوله يعينه على الضلال؟
فمن كان قد أصابه أحد الأسباب الثلاثة، ما المصير الذي نتوقعه لهم في مهب رياح الرزايا والابتلاءات التي نواجهها اليوم إلا أن يلوذوا بالتخلي والتجرد بل والاستخفاف من المبادئ والمفاهيم الكبرى؟
تتعدد الأسباب لكن النتيجة واحدة، وطريق الحق واحد أيضًا، فمن تمسك بأسباب الهداية وعضَّ عليها بالنواجذ، وجاهد بكل ما أوتي من قوة وعلم في سبيل البقاء على الصراط المستقيم، لن يضيعه من قال في كتابه الذي لا ريب فيه: “والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين”