جاد الغيث |
“عندما يستعيد الأعمى بصره فإنه سيرى الكثير من الأشياء المؤلمة على وجه الأرض، وعندها ربما يتمنى لو عاد كفيفًا، وعندما يبرأ المشلول من شلله، تقف رذائله على قدميها وتسعى للمعصية، وربما يتمنى لو عاد مشلولاً ” كلمات قرأتها في أحد الكتب القديمة، وهي تدور حول محور الخير فيما يختاره الله، وكأن لسان حال الكاتب يردد قوله تعالى: “وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا” وبطبيعة الحال سوف يسأل المرء نفسه كيف يكون الخير في الإعاقة أو النقص؟! لكن قبل الإجابة على السؤال دعونا نفكر في مفهوم الإعاقة، فالمعوَّق ليس دائمًا من تنقصه عين أو يد أو ساق، بل هناك ما هو أسوء من ذلك بكثير، فبعض الناس ينقصهم كل شيء، غير أن لديهم شيئًا واحدًا أكبر بكثير مما ينبغي، فهم ليسوا سوى عين كبيرة جدًا تتلصص على المحرمات، أو أذن كبيرة جدًا تنصت إلى أهل الباطل وتؤيدهم، والبعض ما هو إلا لسان كبير جدًا لا يتورع عن الخوض في أعراض الناس، وهناك من البشر من هو عبارة عن بطن كبير جدًا محشو بالطعام والشراب الحرام، هؤلاء وكثير ممن يشبهونهم، قد لا ينظر إليهم أحد على أنهم من أصحاب الإعاقة، لكنهم في الواقع لديهم ما يمكن تسميته (بالعاهات المعكوسة) لديهم من كل شيء أقل بكثير مما ينبغي، ومن شيء واحد أكثر بكثير مما ينبغي، فهل يدرك هؤلاء الناس مدى إعاقتهم؟!
في حادثة طريفة كنت فيها شاهدًا ومرافقًا لمجموعة من الشباب من ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث صحبتهم في رحلة للبحر، وهناك على الشاطئ خطر ببالي أن أسألهم عن أكثر الإعاقات صعوبة في الحياة، وأي الإعاقات أشد ألمًا على صاحبها، وتوقعت أن يجيب كل واحد منهم أن إعاقته هي الأصعب والأشد ألمًا، لكن أجوبتهم حيرتني وأثارت دهشتي، فالكفيف اعتاد على العتمة وهو مرهف السمع يميز الناس والأشياء بالصوت واللمس، وهو يعتقد أن العمى أسهل بكثير من الإعاقات الأخرى! والأصم الأبكم يرى الدنيا بألوانها وبهجتها ويستمتع بصمتها الدائم ويتعامل مع الحياة حوله بلغة الإشارة وهو سعيد بذلك! وصاحب الإعاقة الحركية وإن كان يمشي على كرسي متحرك فإنه يرى ويسمع ويتكلم ويحمد الله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى!
إجابات مدهشة مليئة بعناية الرحمن، فالله عز وجل ينزل على عباده مزيدًا من الصبر والرضى كلما اشتد البلاء وزادت المعاناة.
تأملت في أجوبة هؤلاء الشباب ونظرت في نفسي فوجدت أن أصعب إعاقة يمكن أن تصيب البشر هي إعاقة القيد، نعم يا أصدقائي، فهناك من هم مقيدون في زنزانتهم، وهناك من هم مقيدون بخجلهم أو بخوفهم، وهناك قيد المرض والفقر والجهل، وربما كان قيد الرذائل من أخطر القيود التي لا ينتبه إليه إلا قلة من الناس، وهذا القيد يجر صاحبه إلى الهلاك إن لم تدركه عناية الرحمن بتوبة نصوح.
لقد أُجبر رجل صالح على الزواج بامرأة عمياء صماء بكماء عرجاء، وفي ليلة الزفاف وجد عروسه في غاية الحسن والعافية التامة، ولكي تزيل العروس دهشة عريسها قالت: “أنا عمياء لا أنظر للحرام، وبكماء لا أتكلم بسوء، وصماء لا أسمع إلا مباحًا، وعرجاء لا أمشي إلا إلى أماكن الطاعة” وقد قالوا: “كل صاحب عاهة جبار” فالنقص في جانب من خَلق الإنسان يزيد من عطاء جانب آخر، لأن الله تعالى هو العدل، الحكيم، الرحيم.
ولكن المأساة لدى أصحاب (العاهات المعكوسة) الذين هم أكثر عددًا وأشد خطرًا، وهؤلاء للأسف لا يرى الناس عاهاتهم، ولا هم يرون أنفسهم معاقين!