بقلم : الصاحب الحلبي”فترة الإذلال التي يقضيها المستعبدون تحت حكم الطاغية تفسد فطرتهم إفساداً عميقاً. وليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاءً تحت سوط الجلاد، وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتبطراً حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة”.هذه الكلمات تلخّص حال كثير ممن أدمنوا العبودية واستساغوا العيش في ظل الطاغية، فخلت نفوسهم من معاني العزة والكرامة والنخوة والإباء، وعشّش فيها الاستخذاء للقوي والاستزلام على الضعيف، فمثلهم كمثل الكلب؛ يستأسد على الضعيف، ويضع رأسه صاغراً تحت حذاء سيّده!لذلك نجد هؤلاء يمارسون شتى أنواع العسف والظلم والقهر والجبروت، على الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، ويتصاغرون أمام الطاغية وأذنابه إلى درجة أنهم يقدسون حذاءه فيجعلونه على رؤوسهم، ويضعونه في أمكنة بارزة من غرف الاستقبال، ويقيمون له النصب التذكارية!ربما يبدو مصطلح “عبادة الحذاء” غريباً ومستهجناً في بداية الأمر، لكن من يتأمل الأيقونات المقدسة عند أتباع الديانات يجدها ترمز إلى معبود من معبوداتهم، كأيقونات الديانة البوذية، والديانة اليهودية، والديانة النصرانية. فتقديس تلك الأيقونات يكون رمزاً لتقديس المعبودات بادئ ذي بدء، ثمّ تتحول العبادة مع مرور الوقت إلى الأيقونة ذاتها.ومن المؤكد أن الحذاء لم يكن مقصوداً لذاته بالتقديس عند هؤلاء، فهو يرمز عندهم إلى الطاغية مباشرة؛ يرمز إلى قوته وجبروته وقدرته على سحق معارضيه، كما يرمز إلى الولاء الوطني والكرامة الوطنية. لكن اللافت أنه كان من الممكن استخدام السيف أو المدفع أو النسر أو العلم، وما إلى ذلك، رمزاً يعبّر عن هذه المعاني، لكن اختيار الحذاء العسكري وتقديسه، دون سواه، يشير إلى حالة من الاستخذاء والمذلة قلّ أن تجد لها نظيراً عند قطعان الشعوب المستعبدة.تقديس الحذاء ووضعه على الرأس؛ يشير أولاً إلى القبول به أداة للحكم والسيطرة، فلا مانع، عند من يضع الحذاء على رأسه، من أن يدوس الطاغية ومن يمثله من أذنابه وأزلامه على رأسه بذاك الحذاء.كما أنه يشير إلى استعاذة هؤلاء بالحذاء العسكري حامياً ونصيراً؛ يدلّ على ذلك العبارات التي يستخدمونها عندما يتحدثون في صفحاتهم عن شهيد من شهداء الحرية، بقولهم: “تم الدعس بالبوط العسكري”، أو عندما يشيعون خبر رتل قادم إلى منطقة من مناطق الثوار، بقولهم: “جاييكم البوط العسكري”، فهر رمز عندهم للقوة الحامية والجبروت والبطش، وعبادته فيها لجوء إلى قوته، واستعاذة بها خوف التأثر برياح الحرية.وقد شاع لدى هؤلاء القوم وضع معبودهم “البوط العسكري” على رؤوسهم في المسيرات “العفوية”، وأمام وسائل الإعلام، في تحدٍّ واضح للثوار الذين يعيّرونهم بأنهم خاضعون للعسكر، أو أنهم عبيد أذلاء للطاغية يكرهون الحرية ويخافون منها، فهم يشيرون بصراحة من خلال وضع البوط العسكري على رؤوسهم إلى قبولهم بهذه التهمة، بل وافتخارهم بها. ولعل ذلك يسدّ ثغرة نفسية قد تطلّ منها الفطرة السليمة للناس الذين “ولدتهم أمهاتهم أحراراً” فاختاروا العبودية واستمرؤوها.ويصل إفساد الفطرة لدى هؤلاء، إلى حدٍّ يجعل أماً لقتيلين من قتلى النظام تضع الحذاء العسكري لابنها القتيل أمام عينيها، يذكّرها به، بدلا من أن تضع صورة القتيل، أو وسام البطولة الذي منحه إياه النظام مقابل تضحيته بنفسه في سبيله، ولا يمكن تفسير هذا التصرّف المنحرف لهذه الأم المفجوعة، إلا بالتقديس المطلق لهذا الرمز، والتذلل المطلق لما يمثله من الطغيان، والإشارة إلى أنها قدمت ولديها قربانين على مذبح “البوط العسكري”.ويبدو أن أيقونة “البوط العسكري” قد راقت لأجهزة المخابرات لدى النظام، ولعلها هي التي ابتكرتها أساساً لتكريس الخنوع والرضوخ لدى أتباع النظام وشبيحته، فقررت إقامة “نصب تذكاري” للحذاء العسكري! نعم نصب تذكاري على مدخل مدينة اللاذقية يعلوه بوط عسكري ضخم. وعهدنا بهم يقيمون النصب والأصنام للوثنين الطاغيتين الأب والابن، لكن هذا التحوّل العجيب يشير إلى رغبة النظام بتحويل تقديس الحذاء من حالة فردية إلى ديانة يعتنقها الشبيحة، تجمع بين أتباع الديانات والطوائف، وتوحّدهم في عبادة الحذاء، في حالة من التردي إلى حضيض العبودية والذلة، فريدة في التاريخ.ولعل إقامة هذا النصب في هذا المكان تحديداً، يحمل بعداً طائفياً، ويعبر عن طريقة جديدة في تأطير حدود منطقة النفوذ، فكما نجد في عالم الوحوش من يحدّد منطقة نفوذه وسيطرته “برائحة بوله”، ليمنع غيره من الاقتراب. نجد النظام يحاول تأطير منطقته برائحة الحذاء العسكري.لقد حاول هؤلاء العبيد أن يعوضوا عن فساد فطرتهم التي جُبلت على حب الحرية، بعبادة البوط العسكري، وعرضه في غرف استقبالهم، وإقامة النصب التذكارية له، وتقديم القرابين البشرية تقرّباً إليه. لكن ذلك كله لم يستطع أن يمحو الرائحة الكريهة للحذاء العسكري من أعماق وجدانهم، فلا رائحة أنتن من رائحة الحذاء العسكري، ولا تاريخ أنتن من تاريخه في سورية، فحاولوا تعويض ذلك أيضاً، بوضع باقات من الورود الجميلة داخله، في محاولة يائسة لتجميل قبح المعنى والمبنى الذي يحمله ذلك الرمز. لكن تعطير القاذورات لا يغير حقيقتها ولا يُذهب نتنها.وكما انتشرت رائحة الربيع العربي في الأقاليم، وتضوّع عطر ربيع سورية في العالم، فتغنّى عشاق الحرية في كل مكان بتضحيات هذا الشعب العظيم وصموده الذي فاق الأساطير وجاوز حد الخيال. ينتشر نتن الحذاء العسكري عند عبيد الطغاة، وتظهر في بلدان أخرى الديانة الجديدة للشبيحة، فنرى عائلة من “بلطجية” مصر، تعبر عن ولائها للطاغية الجديد، برفع الحذاء العسكري على رؤوس الأطفال.”عبادة الحذاء” ديانة جديدة من ديانات الباطل، لا بدّ أن ترمى في مزبلة التاريخ، مع كهنتها وأتباعها وإن طال الزمن، ولا بدّ أن تدوس أحذية الأحرار على هامات الطغاة. لأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، إنّ الباطل كان زهوقا.