(العين لا تقاوم المخرز) مهما بلغ الحماس بمرددي هذه العبارة عندما يعكسون طرفيها، ويدَّعون أن أعينهم استطاعت مقاومة مخارز الأعداء في صمود أسطوري أو في حدث إعجازي طارئ، إلا إذا اعتبرنا حالة الرضا بالعور أو عدم الاكتراث بالعمى هو مقاومة مجدية بإمكانها أن تحقق النصر الذي لم يستطع المبصرون تحقيقه.
إن المقاومة في هذه الحالة تكمن في ذكاء تجنب الضربات، ثم الالتفاف لتوجيه ضربات هجومية ودفاعية نحو اليد التي تحمل المخرز لا نحو المخرز نفسه، فمحاربة الرصاص بصدور مكشوفة لن يؤدي بطبيعة الحال إلا إلى تخضب تلك الصدور بالدماء وموت أصحابها، ومهما بلغوا من المجد سيكونون مجرد أمثلة فقط عن حالات الصمود البطولي، أو عن حالات المقاومة العبثية العاطفية من وجهة نظر أخرى.
في مثل تلك الحالات التي نعيشها اليوم تبدو السياسة هي رأس الحربة التي يمكننا المواجهة من خلالها، فرغم الضعف الكبير الذي نعانيه في هذا الميدان لكنه يبقى أفضل بمئات المرات من الميدان الآخر الذي نصطف فيه لنكون مجرد ضحايا أمام آلة موت ضخمة تقودها ثاني أقوى دولة في العالم ومعها قوى وأموال إقليمية والعديد من المليشيات والمرتزقة، حُشدت جميعها للقضاء على إرادة شعب شبه أعزل فقط لأنه طالب بحريته.
هذا الكلام لا يعني التخلي عن المواجهة المسلحة بالمطلق، فنحن اليوم لا نخوض هذه الحروب بإرادتنا، وإنما تُفرض علينا بين وقت وآخر، ولكن يجب ألَّا نختصر المواجهة على الحالة العسكرية؛ لأنها لن تكون في صالحنا مع الاختلاف الشاسع في موازين القوى، وفي التنظيم وفي أداء الحلفاء.
علينا أن نركز على أدائنا السياسي، ونعمل على تطويره وصياغة أنفسنا من خلاله ككتلة مرنة قادرة على إيجاد حلول تحفظ مصالحنا ومصالح الآخرين، لا أن نتمترس فقط خلف مطالب مثالية لا يمكن الوصول إليها.
السياسة هي فن التفاوض، فن أن تأخذ وتعطي، أن تضرب أحياناً وتتلقى الضربات أحياناً أخرى دون أن تفقد القدرة على الحراك، وليست فن الصراخ من خارج الحلبة، أو ادعاء الحل الوحيد والخيارات المحدودة.
أن تكون الخيارات محدودة في الممارسة السياسية مشكلة كبيرة، لأن السياسة هي فن الغوص بالتفاصيل وإخراج الشيطان من مكامنه، لا الاكتفاء بتجنبه فحسب، كما يجب أن يبدع السياسيون في توليد خيارات لا منتهية تجعل الخصم في فوضى من المعطيات التي تجبره على الركون لأحدها وإعلان ضربة البداية.
أمّا الاكتفاء بالرفض فقط والتناوش الداخلي والتخوين في الصف الواحد، فهذا يعني أننا نريد أن نضع العين في مقابل المخرز لنبدأ رحلة عبثية غايتها الوصول إلى العمى، في تلك اللحظة سندعي أننا قدمنا كل شيء ولم نعد نستطيع أن نقدم أو نتقدم في طريق لا نبصره.
المدير العام | أحمد وديع العبسي