عبد العزيز العباس |
لو سألنا أيّ شخصٍ أين وُلِد المسيح عليه السلام وعاش ومات فسيكون جوابه في فلسطين، وهل هناك شك في ذلك؟! لكنّ الكاتب المصري يوسف زيدان يقول: “إنّ المسيح عاش في مصر.” ليس يوسف زيدان الذي قال ذلك! بل مجموعة الرقوق التي وُجدت شمالي مدينة حلب السورية، وقد كُتبت هذه الرواية بالسريانية في القرن الخامس الميلادي، وقام بترجمتها إلى العربية الأب (وليام كزاري) في القرن الخامس الميلادي، وهو من أتباع كنيسة الرها من النساطرة، وتقع الرواية في ٣٠ رِقًّا.
أحدثت هذه الرواية، وقبلها اكتشاف تلك الرقوق، تساؤلات عديدة فيما يخص المسيح عليه السلام أين كبر وترعرع …إلخ
(هيبا) راهب مصري اختاره الكاتب يوسف زيدان ليكون بطل الرواية، يسافرُ هذا الراهب من موطنه الأصلي الإسكندرية إلى أورشليم أي القدس ويعيش فيها فترة من الزمن، ثم يعود إلى مصر لكن خلال وجوده في القدس يلتقي ببعض الرهبان وتجري بينهم حوارات ونقاشات بخصوص موت المسيح وقيامته وصلبه ومعجزاته والأسفار غير القانونية.
يستخدم هذا الراهب هيبا اسماً له بعد خروجه من الإسكندرية ليستطيع الدخول إلى القدس كي لا يكشف عن هويته الحقيقية، فهيبا اسم غير مصري وهو شخص يقرأ بالعبرية واليونانية والآرامية والقبطية، يظل عزازيل وهو الشيطان يراوده لكي يكتب هذه الرقوق، لكنه يرفض حتى يقبل بعد صراع نفسي مع عزازيل الذي يظهر منك وفيك.
من الأخبار والمعلومات الغريبة خبر محاكمة الراهب أريوس بالهرطقة بعد أن قال: إنّ المسيح عليه السلام إنسان كانت نهايته الموت بالسم وأُمر بإحراق الأناجيل كلها ما عدا الأناجيل الأربعة، أريوس أراد تخليص المسيحية من الديانة المصرية القديمة ليعبدوا إلهًا واحدًا شريك له.
في الإسكندرية يلتقي هيبا بالجميلة (أوكتافيا) التي أنقذته من الغرق في البحر، ثم تحبه لكنّها تقوم بطرده بعد أن اكتشفت أنّ هيبا راهب مصري من أتباع الدين المسيحي، وقد تحدثت له عمَّا قام به أتباع الكنيسة في الإسكندرية من قتل وإجبار أهل الإسكندرية على الإيمان بالمسيح والتخلي عن ديانتهم الأصلية.
يشهد الراهب هيبا موت الفيلسوفة هيباتيا على يد أتباع المسيح الجدد في الإسكندرية، وهي فيلسوفة عاشت في القرن الخامس الميلادي وقتلت فعلاً بطريقة غامضة ولأسباب مجهولة.
أغلب الشخصيات في الرواية حقيقية، مثل الراهب خريطون والراهب أريوس والأسقف تيودور والقس نسطور والفيلسوفة هيباتيا، لكنّ الغريب أنّ بطل الرواية شخصية خيالية اخترعها يوسف زيدان لتوصيل الأفكار، فليس هناك في التاريخ راهب اسمه هيبا، وحتى عزازيل في هذه الرواية شخصية داخل شخصية الراهب هيبا أو قُلْ هو شخصية اخترعها يوسف زيدان لكي يقول إنّ ما كتبه هيبا وما عرفه لم يكن ليكتبه لولا وجود هذا العزازيل في داخله، وعزازيل ليس شيطان بقدر ما هو صوت داخلي لضمير الراهب هيبا الذي رأى أن يكتب ما حصل معه وما شاهده وما سمع به من أحداث كانت ستضيع لولا تدوينها في هذه الرقوق .
الرواية تاريخية مبنية على أحداث ووقائع حسب المصادر التي بين أيدينا يمكن أن نثبت بعضها كموت الفيلسوفة هيباتيا، ويمكن أن نشك في بعضها كالتي تحدثت عن المسيح عليه السلام وكيف عاش في مصر، وهناك أحداث ليست إلا نتاج خيال الكاتب يوسف زيدان ممتعة لا يشعر القارئ بالملل وهو يطالعها؛ لأنّ الكاتب يوسف زيدان استطاع التوفيق بين الحقيقة والخيال، وبين التاريخ والرواية، استطاع أن يعيد صياغة التاريخ بشخوص بعضها خيالي وبطريقة فنية استحقت أن تفوز هذه الرواية بجائزة البوكر لعام ٢٠٠٨ بجدارة لا شك فيها .
تعد هذه الرقوق المترجمة والرواية كذلك ذات قيمة تاريخية تُوثق مرحلة تاريخية مهمة في حياة مصر ومدنها وجغرافيتها، وحياة المسيح عليه السلام وتاريخ الكنيسة والصراع بين أتباعها الجدد وأتباع الديانة المصرية القديمة.