صهيب إنطكلي |
وبضدّها تُعرف الأشياء؛ فالجمال الأخّاذ ضدّه القبح؛ ولكلّ وجهٍ جميلٍ وجهٌ آخر مختلف؛ وللمدن كما الأرواح وجهٌ آخر يخفي الجمال الظّاهر.
قرأت منذ أيّامٍ مقالًا يتحدّث فيه كاتبه عن احتضان مدن ما يُسمّى (بدرع الفرات وغصن الزّيتون) هنا في أقصى الشّمال؛ لمئات الآلاف من إخوانهم المهجّرين قسرًا عن ديارهم وأرزاقهم وذكريات حياتهم؛ وهذا كلام حقٍّ؛ يُبدي الوجه الجميل الخيّر لهذه المدن وأهليها؛ ولكن ولكي تكتمل الصّورة كما هي على الحقيقة؛ علينا أن ننظر بعينَين مفتوحتين؛ عسانا نرى الوجه الآخر المتمّم للمدينة؛ وما نبتغي من وراء حروفنا إلّا الإصلاح والصّلاح ما استطعنا إليه سبيلًا.
سيطالعك في الوجه الآخر لهذي المدن ملّاكٌ للبيوت جشعون إلى حدٍّ غريبٍ، إلّا مَن رحم ربّي؛ هم أقرب للتّجار؛ كأنّ مصاب النّاس وآلامهم بالنّسبة إليهم موسمٌ سياحيٌّ لتكديس الأموال وجني الأرباح؛ كأنّ المهجّرين البائسين سيّاحٌ جاؤوا من بلدٍ أوربّيٍّ للاستجمام والرّفاهية؛ ولأنّي هجّرت إلى مدينة عفرين؛ فإنّي سأتحدّث عنها كنموذجٍ عن أخواتها في الشّمال المتكدّس بشرًا.
عندما كنت أقصّ شعري في أحد محلّات الحلاقة العتيقة هنا؛ سألت (إدريس) الحلّاق العفرينيّ أبًا عن جدٍّ؛ عن أسعار آجار البيوت الاعتياديّة قبل موجة النّزوح الأخيرة؛ فأدهشني بأسعارٍ بسيطةٍ جدًّا؛ تقارب ١٥ ألف ليرةٍ؛ وقد تصل أقصى حد إلى ٣٠ ألفًا للبيوت الفخمة ذات الغرف الكبيرة والواسعة؛ أي ما يعادل ٢٠ دولارًا بشكلٍ متوسّط؛ وبمقارنةٍ بسيطةٍ نرى أنّ الأسعار قفزت لأضعافٍ كثيرةٍ؛ في وقت شدّةٍ يُفترض أنّه وقت تراحمٍ وتعاضد، خاصة أننا في شهر رمضان، حيث وصل آجار البيت إلى٥٠ دولارًا أمريكيًّا وإلى ١٠٠ دولارٍ، وإلى ٢٠٠ دولارٍ للشّهر الواحد؛ أي ما يعادل أكثر من ٢٠٠ ألف ليرةٍ سوريّة؛ لك أن تتخيّل أنّ أناسًا مهجّرين؛ تركوا بيوتهم وأموالهم وراءهم؛ يبحثون عن مأوىً يستر أهليهم؛ يُطلب منهم هكذا مبالغ!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد؛ إذ إن أصحاب البيوت أو مَن وضع يده على بيوتٍ لأسباب كثيرةٍ؛ لا يقبلون بآجار شهرٍ واحدٍ غالبًا؛ فهم يطلبون آجار ستّة أشهرٍ سلفًا أو عام؛ تخيّل نفسك تدفع مبلغ ٦٠٠ دولار تقريبًا؛ أي ما يعادل ثلاثة أرباع مليون ليرةٍ لتستأجر بيتًا لستّة أشهر فقط!
نعم إنّه الوجه الآخر المؤلم للمدينة، وغالبًا تتكرّر هذه الصّورة المؤلمة في كلّ المدن المحرّرة؛ فليس الوضع في مدن ريف إدلب كسرمدا والدّانا وغيرها بأفضل منه هنا.
والملاحظ غالبًا أن ليس لأحدٍ أن يحاسب أحدًا؛ فليس هنالك جهةً رسميّةً تستطيع أن تقول للجشعين: كفى؛ وليس هنالك أحدٌ يستطيع أن يرسم سقفًا منظورًا للأسعار الّتي لا سقف لها؛ فالأمر متروكٌ للضّمائر الّتي مات معظمها منذ زمنٍ بعيد.
ولن نبعد عن موضوعنا إذا تحدّثنا عن تفشّي ظاهرة التّشرّد والنّومِ في العراء؛ ليس طبعًا رفاهيةً وتأمّلًا؛ كجبران خليل جبران حينما قالَ: هل اتخذت الغاب مثلي؛ منزلًا دون القصور
فتتبّعت السّواقي وتسلّقت الصّخور.
ولكن بؤسًا وشقاءً وفقرًا مدقعًا؛ في جامع (أبي بكرٍ الصّدّيق) في عفرين كنت أرى رجلًا مشرّدًا ينام في بهو الجامع الخارجيّ؛ فراشه كرتونٌ مقوّىً؛ وفوقه لحافٌ مهترئٌ؛ وتحت رأسه حذاءٌ عتيقٌ؛ كلَّما دخلت رأيته فدعوت: “الحمد لله الّذي فضّلنا على كثيرٍ من عباده تفضيلًا”؛ بعد أيّامٍ أصبح إلى جانب المشرّد آخر، ثمّ صاروا ثلاثة فأربعة؛ وهكذا يكثرون ويتزايدون؛ المؤذّن يقفل باب الجامع الخارجيّ عليهم بعد صلاة العشاء ويتركهم ليناموا على الأرضِ إلى صلاة فجرٍ جديدٍ عساه يحمل فرجًا مرتقبًا؛ ووراء كلّ مشرّدٍ ومتشرّدةٍ قصّةٌ وحكايةٌ؛ وعند مفرق الغرفة الّتي تؤويني وأهلي كنت أرى سيّارةً ملحّفةً بغطاءٍ؛ اتّخذها أهلها بيتًا ينامون فيه في المساء بعدما عزّت البيوت؛ نعم؛ إنّه الوجه الآخر للمدينة، وقد زاده تفجيرات إرهابية حولت أكثر من أربعين شخصًا إلى جثث متفحمة.
قلبي يبكي دون دموعٍ؛ وأنا أخطّ نماذج من وجوهٍ أخرى للمدينة العتيقة؛ وجوهٍ من المأساة الّتي تعمّ العباد والبلاد.