رشيد النباتي | مدونات الجزيرة
عندما تتوفى الأم تنتهي حياة الطفولة كما يقال “يظل الرجل طفلا حتى تموت أمه فإذا ماتت شاخ فجأة”. لكن ماذا إن كان ذالك الطفل المخبأ في جسد رجل غير مستعد للخروج إلى هذا العالم وحيدا بعد أن تعود على مرافقة أمه دائما. هذا العالم الذي تحول بين الأمس واليوم، بين الحياة والموت، بين اللقاء والفراق، تحول من عالم دافئ، حنون، مشرق بإبتسامة الأم إلى عالم مظلم، حزين حضنه بارد كالثلج. في الأمس القريب كان العالم عالمين واحد لي وحدي خلقته لي أمي والآخر لنا جميعا. بالأمس كنت أعيش أميرا في مملكة الأم واليوم أعيش كلاجئ ليس له وطن.
عندما كانت أمي على قيد الحياة كنت أعيش في عالمين؛ عالم خارجي بضغطه وظلامه نادرا ما أعيش فيه لحظة جميلة. وعالم أمي عندما أعود إلى المنزل عالم دافئ يحتويني عالم أعود إليه مهرولا بعد يوم طويل شاق. لكن رغم قساوة يومي كنت أعلم أن أمي في انتظاري بحنانها وعطفها كانت تزيل عني كل العناء وتشحنني بطاقة إجابية تساعدني على مواجهة يوم جديد بطاقة جديدة. وجود عالم أمي كان يجعلني لا أنتظر شيئا من العالم الخارجي ولا يهمني أي شخص لأنني أعلم أن لا أحد يستحق.
في حياتها كنت أشعر دائما أنني لا زلت طفلا صغيرا لا يريد أن يكبر ربما لأن كلامها وتعاملها معي كان كتعامل الأم مع طفل ذو تسع أو عشر سنوات. هذا ما كان يجعلني دائما أشعر بالأمان والراحة. إذا تأخرت تسأل عني وتنتظر قدومي، إذا سافرت كانت أول من يسأل عني قبل غروب الشمس لتعرف حالي وتستفسر عن سلامتي. إذا مرضت ترعاني ولا تنام حتا أنام، أتذكر أنها كانت تأتي إلى غرفتي ليلا بين الفينة والأخرى لتطمئن علي كنت حينها أتظاهر بالنوم كي يرتاح قلبها. كانت تعلم ماذا أحب و ماذا أكره، تحس بي عندما أكون حزينا دون أن أتكلم فتحاول التخفيف عني بكلاماتها الحنينة، كانت دائما تنجح في ذلك.
أما اليوم فقد تغير كل شيئ بعد رحيلها إلى العالم الآخر بدون عودة. أصبحت تفاصيل الحياة مملة باردة، لا معنى لها، أصبح نهار اليوم كليله متشابهان ظلاما. اليوم لم يعد هناك من ينتظرني كما كانت تنتظر، ولا من يسأل عني كما كانت تسأل، ولا من يحن كما تحن، ولا من يحب كما كانت تحب… اليوم مات ذلك الطفل اللذي بداخلي رغما عني. أنا لا أريد ذالك، أو ربما لست قادرا على التأقلم مع هذه الوضعية الجديدة. لكن ليس لدي خيار.
فالموت يأتي فجأة بدون سابق إنذار، مفرقا بين الأهل والأحبة، بين الطفل وأمه. أحيانا لا يحزننا حدث الموت لأنه حقيقة لا بد منها، بل يحزننا الفراق بدون وداع، تحزننا كل الأفعال الجميلة التي قمنا بتأجيلها إلى الغد، كل اللقاءات التي لم يكتب لها أن تتم. فتتملكنا الحسرة عل كل حدث وفعل مأجل، نتوه بين ألم الفراق والاشتياق. فيأخذنا الحنين إلى الماضي بتفاصيله الجميلة، لكننا لا نستطيع التخلص من حقيقة الحاضر المئلمة، حاضر بمشاعر تائهة تبحث عن عناق لا يمكن أن يحدث، تبحث عن حضن دافئ فلا تجد غير الفراغ…
لقد مرت اليوم ثلاتة أشهر على الفراق، لا زلت أعيش في متاهة غير مصدق لما حدث. وفي نفس الوقت نادم على كل ثانية مرت في حياتي ولم أستغلها في التعبير عن حبي لها، نادم على كل عناق أجلته لسبب أو لأخر، نادم على كل كلمة لم تقال تعبيرا عن مكانتها في حياتي. لقد إستخلصت دروسا لم تعد صالحة وتعلمت أن تكرار البوح بمشاعرنا ليس أمرا مملا وأن تأجيل المشاعر إلى الغد قد يكون تأجيلا إلى الأبد. لأن الغد قد يكون الموت والفراق.