المعتصم الخالدي |
يقول فؤاد زكريا: “لا يستطيع أحد تحريك جموع كبيرة من الناس ولو كان متآمرًا، مالم يمس وترًا حساسًا لديهم”
أذكر أني قرأت هذه المقولة في مجلة العربي الثقافية الكويتية، يومذاك كنت طالبًا في حمص، وكانت الثورة على الأبواب والمدينة الوسطى تعيش حالة ترقب وحذر مع وجود بعض الدعوات للتظاهر في الشارع وأخرى للخروج بمسيرات تأييد.
لم تذكرني باريس بحمص تمامًا، لكني عدت بذاكرتي إلى الوراء عندما اندلعت انتفاضة اللوز في حمص، أذكر أن المتظاهرين طالبوا بتغيير محافظ حمص وقتها فقط.
أما باريس “عاصمة الموضة والأنوار” الغاضبة، والمحترقة بلهيب الاحتجاج، لم يتلق (ثوارها) الرد الفعلي نفسه والحالة الجنونية للسلطة كما رأيناها في حمص، مع أن مدينتي خرجت بشكل عفوي وكانت هادئة وسلمية (لم تكسر ولم تحرق سيارات مواطنيها ولم تخرب أو تنشر الفوضى آنذاك)
ومن قام بكل هذه الأشياء هم عناصر السلطة، إذ كانوا يكتبون على مدرعاتهم قوات حفظ النظام، مع أني رأيتهم يعتقلون طلابًا 15 من العمر، ويأخذون من عامل بناء تبدو عليه علامات (المسكنة) هاتفه المحمول من نوع نوكيا (زهيد الثمن) ويأمرونه بعدم الحديث عن الواقعة لأحد.
ولم يرَ (ثوار باريس) بطبيعة الحال بندقيات الكلاشنكوف، أو بالأحرى لم يجربوا كيفية إطلاق رصاص حي قاتل عليهم، أما في حمص جربها الثوار من اللحظة الأولى، ففي تلك اللحظات وعند بزوغ دقائق الفجر الأول كانت جرافات كبيرة تجرف مئات الجثث لشباب اعتصموا عند ساعة مدينتهم الجديدة، كان أول اصطدام حقيقي ومؤلم، لقد تبين لنا مدى همجية الإدارة الحاكمة آنذاك، بالطبع لن يتسنى (لنشطاء باريس) مشاهدة شلال دم كالذي عشناه، أو حتى معايشة أحداث قريبة منه.
الشيء الذي تفاجأت منه صراحة هو نزول (أحرار الشانزليزيه) إلى الشوارع
ومعهم مقذوفات (المولوتوف) ليستخدموها ضد الشرطة الفرنسية، وعندما أحدثت مقارنة بسيطة في عقلي، وجدت أني لم أرَ متظاهري حمص رفعوا أشياء خطيرة إلا الورود التي كانت خطيرة بنظر النظام المجرم، فقابلهم بكافة أنواع الأسلحة المصنعة منذ زمن الإنسان الأول إلى يومنا هذا.
وبطبيعة الحال لا يوجد في باريس أفرع أمنية تحت الأرض ولا عفاريت زرق ولا سود ولا معتقلات وسجون مظلمة ومخيفة ومقرفة، ولم يجرب أحرار فرنسا في مشوارهم النضالي أساليب التعذيب الوحشية التي جربها شبابنا وبناتنا في سجون السيد الرئيس الشاب، فهي أساليب، وللأمانة، عصرية وحديثة وفيها ابتكار، فمن قلع الأظافر إلى التشويه إلى التسبب بعاهات دائمة أو أمراض نفسية وعقلية إلى حرق أجزاء من الجسم وصولا إلى الموت تحت التعذيب، ولا تنتهي بالاغتصاب الذي يكون ممنهجًا في غالب الأحيان، وبالتأكيد فإن السيد ماكرون (عاجز) عن تقليد هكذا إبداع!
وأعتقد جازمًا أن الفرنسيين لم يجربوا بركات إصلاحات الرئيس التي أتت بنتائج إيجابية للحقيقة كانهيار الاقتصاد السوري، وانهيار التعليم بكافة مؤسساته، وانتشار الفساد والفوضى والبطالة والفقر واللجوء، وتدمير مدن على رؤوس ساكنيها ومحاصرتها وتهجير أهلها، والوقوف وراء مقتل مالا يقل عن مليون سوري، وتحويل بلد عمره سبعة آلاف سنة إلى بؤرة للإرهاب والفساد والتطرف والاحتلالات بكافة أشكالها!
فلذلك أنصح أصدقائي الفرنسيين بعدم طلب أو تجربة إصلاحات كهذه، فقد يكون المسيو ماكرون يريد استلهام التجربة الأسدية عندكم.
ومع كل ما حصل من خراب عندنا إلا أننا كنا أكثر تحضرًا ورقيًا منكم يا أهل باريس، نحن خرجنا بأغصان الزيتون وأزهار التوليب وأنتم خرجتم ونشرتم الفوضى والخراب في شوارعكم الجميلة، لكن للأسف لديكم دولة مؤسسات قوية وعادلة، ولدينا دولة فساد عسكرية ودموية حكمتنا لأربعة عقود متتالية.
هذه كانت مأساتنا في حمص خصوصًا، وفي سورية عمومًا..