القدس التي لم تكن في يومٍ لنا، لقد ضاعت منّا منذ أكثرَ من سبعين عاماً، لن يغير إعلانها اليوم عاصمة للكيان الصهيوني شيئاً كثيراً في واقعها، لكن قد يغير في واقعنا إن استطاع.
ترامب لم يسلب القدس بقراره الذي يشبه قرار (بلفور) منذ أكثر من مئة عام، إنَّما سلبنا نحن مرةً أخرى، لقد اعتدنا خلال مئة عام على وجود الصهاينة وبدأنا نشرعنُ وجودهم بتفاهات المنهزمين، المنبطحين، القاتلين لكلِّ شرفٍ على هذه الأرض لكي يحيا العار الذي يلتحفونه بخزيٍ وذل، صار الوقت مناسباً لنتلقى صدمةً أخرى نعتاد عليها عمَّا قريب.
إنَّ القدس للصهاينة بشكل كامل، وغداً نفاوضُ على ما بعد القدس، ربّما على لجنة دولية لحماية المقدسات فحسب، وننسحب من أرضنا لنعود سياحاً نتفرج هزيمتنا كلّ يوم.
في الحقيقة لقد كانت لهم، منذ أن دخلوها وهم يتصرفون على أنَّها لهم، ونحن نُمنّي النفس باستعادتها بدون عمل، فقط لأنَّهم لم يسجلوا اسمهم على أسوارها كما فعل لهم ترامب، هي آخر الصدمات التي من الممكن أن تتعرض لها الشعوب في سبيل يقظتها، لقد فعلها المجنون، في عالم يقوده الجنون منذُ عقود، ضاعت دمشق وصنعاء وطرابلس ومكة والمدينة وبغداد والقاهرة وبيروت وحلب، ضاعت كل مدائننا من قبل ولم نحرك ساكناً، مات الملايين حولنا، فحمدْنا الحاكم على أن منحنا الحياة في مزابله الواسعة ولم يقتلنا مع الآخرين، خاننا الحكّام أمام أعيننا فاغتصبوا البلاد والأعراض باسم الرياسة، فاعتبرناها بركتهم الخالدة، ورحنا نتعلم فن الدياثة.
نعم يا سادتي نحن الشعوب، وليس الحكامَ فقط، نحن من ارتضى العار واستمرأ الذل وهانت عليه الكرامة وقتلَ العفة، وفرح بقليل من الخبز والنبيذ لكي يعيش حياة المتشردين في أوطانهم، ويحمي نفسه من الموت الذي لابدّ منه، نحن من أصبحنا غثاءً حقيراً لا يتحرك، نكتفي بالصراخ، كأنَّ الصوت هو أفضل ما صنع الله فينا من الأسلحة، نُبرّد غليان صدرونا، ثم نعود للنوم هانئين، نتمنى لأطفالنا غداً أفضل. وأيّ غدٍ أفضل سيأتي من بعدنا؟! أي شيء لم نصنعه أصلاً؟! سنورثهم العار والجبن وحبّ الحياة والمال، نعمل من أجل المال الذي ندَّعي أنّه سيساعدنا لنكون أقوى، حتى إذا ما امتلكناه امتلكَنا، وصرنا عبيده، نلهث وراءه لنُشبع كلَّ شهواتنا، ثم نموتُ منتفخين، تفوح منَّا رائحة الخطايا، ونُلقى في حفرةٍ صغيرةٍ بلا اتعاظ، ليستمر العبيد بالتكاثر.
نوعٌ آخر منّا، لا بدّ أن نذكره، أولئك الذين يقضون وقتهم في الصلاة للربّ الذي يلعنهم على تخاذلهم، فالصلاة هي العمل، وليست الجلوس للعبادة دون تدبّر أمر الدنيا واتقاء الآخرة، هؤلاء الذين نسميهم الصالحين، هم أسوأ ما خلق الله من العباد، لا اكتنزوا دنيا فانية، ولا عمّروا آخرة باقية، إنَّما بحثوا عن الراحة التي ارتضوها بمزيد من الذلّ والصَّغار.
لقد صار كلُّ ما حولنا اعتيادياً جداً، لقد تمَّ تدجيننا بشكل جيد، “للبيت ربٌّ يحميه”، هذا ما أجدناه من كلِّ دروس التاريخ، هذا ما تعلمناه يا لعنةَ الأرض وحنق السماء وغضبَ الإله وجيفة الموتى ونتن الحضارة وجبن الرجال.
لن تعود القدس لأمثالكم أبداً، إنَّما ستستباح أرضنا بأيديكم بشكلٍ أكبر، إمَّا أن تتغيروا، أو أن تنتظروا جحيمكم الموعود واستبدال الله لكم.
إنْ لم تتعاملوا مع حكامكم وأنظمتكم الطاغية على أنَّها احتلالات كاملة، قد أَعلنت جميع مدائنكم عواصم للذلّ والنذالة والخساسة والدياثة، فلن تحرر القدس.
الطريق للقدس لم تعد سالكة، إنَّها معبدة بملايين المحتلين الذين يقفون بالمرصاد لكلِّ من أراد تحريرها، يقفون بحجة خبز أطفالهم وستر نسائهم، وقد انتهكت أعراضهم في مخادعهم يوم دخلوها غير آمنين.
القدس ليست لنا، لم تكن ابداً، إنَّما لمن لديه بقية من كرامة، يحاول أن ينتمي.
القدس لأولئك الذين يحمونها، يموتون على أسوراها، وعلى أسوار حريتهم من أجل أن يصلوا إليها، القدس ما زالت منحوتة بلهب الثأر في صدور الثائرين مرسومة على جبين صلاتهم، تدثرها في دفءٍ دماؤهم، ويحيطون بها كحلمٍ عصي على الموت، وكرضى الإله الذي يرتجون، إنَّهم هناك، يملؤون ساحات الكرامة وجبهات الشرف، في شامنا ويمننا ومصرنا وعراقنا ومغربنا العربي الكبير، لا يفترون عن العمل والجهاد، لا يضرهم من خذلهم، لا يتوقفون عن عشق أقصاهم حتى لو خانتهم أنفسهم في برهة من التعب، القدس ما زالت في ضمير كلِّ عربي ومسلم ومقاتل من أجل العدالة على هذه الأرض، يَصِلُون الليل بالنهار كفاحاً وعرقاً ودماً على قلَّتهم، لا تخيفهم جحافل أعدائهم ولا سيطرة عدوهم على هذه الأرض من أطرافها، يؤمنون أنَّهم سيستعيدون كلَّ ما سُلب منهم، لم يعرفوا اليأس قط، ولم يعترفوا بسطوة الطغاة والغاصبين، ولا يفاوضون على شبرٍ من ترابٍ سُلب منهم.
القدس لهم، لأولئك الذين لا يهزمون، يعجزون الموت، ويزلزلون الحياة بضجيج حقهم أمام الخانعين الأذلاء، وليست لنا إن لم نكن منهم.
فلا تخافوا على القدس، بل خافوا على أنفسكم التي تعفنت من اليأس، … واستطال بها عطبُ .. القدس تعرف نفسها، وتعرف كيف تنتسبُ …
المدير العام | أحمد وديع العبسي
1 تعليق
غسان
مقال لازع.